المسرح ذاك الفن الذي لا يشيخ (الجزء الثاني) : جماليات الهشاشة في مواجهة وهم الإمتلاء الأكاديمي في صنع الفن - بقلم أسامة بن الحاج محمد
- أسامة بن الحاج محمد
- il y a 2 heures
- 3 min de lecture
هنا اليوم في المشهد المسرحي التونسي تتجاور حقيقتان بقدر ما تتعارضان و تتنافران، حيث نجد حقيقة المسرح بإعتباره فنّ ينهض من الرماد، يشتغل على هشاشة الكائن وإرتعاش صوته، وحقيقة أخرى تخلقها بعض النخب الأكاديمية التي تجرّ ظلال ألقابها كوسام أبديّ، فتشيّد حول ذاتها سورا يعزلها عن نبض الخشبة.
هذا التناقض لا يعبّر عن إختلاف مواقع بقدر ما يكشف عن تصادم رؤيتين تُبقي الأولى الفنّ في مستوى السؤال، و تُعامله الأخرى كمنصة لتمجيد الذات.
وإذا ما إعتبرنا المسرح في حقيقته الأولى فهو خطاب يتأسّس على إنهيار اليقين، يقف على حافة بين الكلام والصمت، بين الحضور والغياب، في إستراتيجية قريبة من كتابة الظلال عند باشلار أو من "جمالية النقص" عند رولان بارت.

بيد أنّ بعض الأكاديميين، حين يذوقون طعم النجاح، يتعاملون مع الخشبة كما لو كانت مرآة مضخّمة تعيد لهم صورة مهيبة يتخيّلون أنّها تسبق هذا الفن وتعلو عليه فيتحوّل الملتقى من مساحة تداول معرفي إلى فضاء سردي تعاد فيه صياغة الذات كحكاية متفوقة على الفنّ نفسه...أو تكاد.
والمفارقة أنّ الفعل المسرحي يشتغل على نقيض هذا الوهم، فهو يقوم على إنكشاف الإنسان في لحظة خوفه و على إهتزاز صوته والرنّة المكسورة التي تجسّد ما يسميه ميرلو بونتي ب"جسد المعنى"...ما يمكّننا من القول بأنّ المسرح يرفض الإمتلاء، مفضّلا الشروخ، فاتحا المجال أمام هشاشة لا يستطيع المتعالي حملها.
فهذا الفعل التّجريبي، يوجّه أسئلته لمن يملك قدرة على السقوط والتعري الداخلي، على الإنخراط في تجربة جمالية تعيد تعريف الذات خارج أوهامها ولا يمنح إذن سلطة لمن يملك شهادة علميّة.
إذا أخذنا على سبيل المثال الملتقيات المسرحية، التي يحدث فيها ما يشبه المفارقة التراجيدية فنسمع الألقاب التي يُفترض أن تكون أداة معرفة تتحوّل إلى قناع، والقناع يصبح أحيانا أكثر صلابة من الوجه ينسى معه بعض الدكاترة أنّ المسرح لا يشتغل وفق منطق التراتبية، وأنّ العرض المسرحي ليس "دليل تفوّق" بقدر ما هو عرض يختبر صاحبه أمام ذاته أولا وأمام الجمهور ثانيا.
ما يجعل الخشبة تسقط التمثيلات المتضخّمة، وتعيد الإنسان إلى حجمه الحقيقي، في عملية تطهيرية تستعيد ملمحها الأرسطي القديم.
ومن هنا يتشكّل الفرق بين المسرحي الذي يحمل فنّه كمصباح داخل عتمة الوجود، والمسرحي الذي يحمله كصولجان، لنلحظ بينهما الأول يدخل إلى العمل بروح شبيهة بروح المتصوفة، باحثا عن المعنى في المناطق البعيدة، مستنطقا الصمت قبل أن يشرح الكلام، صاغيا لما تعجز اللغة عن قوله ؛ مقابل الثاني الذي يجرّ معه ثقل الذات، واقفا على الخشبة كما يقف الأمير في بلاطه، جامعا بين سلطة المعرفة وسلطة الأنا، فيتحوّل المسرح في نظره إلى مملكة صغيرة تسنّ فيها قوانين لا تشبه روح الفن.
لنا أن نقول إذن بأنّ المسرح التونسي أو المسرح في تونس بتاريخه الواسع لا يصغي للأصوات العالية بإعتباره مسرحا ينهض من رماد المدن و يقترب من الإنسان المهمّش ثمّ يعيد صياغة القضايا العادلة ضمن مقاربات تغذّيها البلاغة كما تغذّيها السوسيولوجيا، وتتجاور فيها الأنثروبولوجيا مع الشعر، كما في أعمال فاضل الجعايبي أو وفاء الطبّوبي حديثا، حيث تتحوّل الخشبة إلى مرآة جماعية تستدعي الذاكرة وتعيد تركيبها بعيدا عن النفوس المتورّمة لأنّه فنّ يتنفّس من فواصل الصمت، ويحتاج إلى مبدعين يملكون القدرة على الإصغاء لبلوغ نجاح يقاس بقدرة العمل على خلخلة المعنى، وتحريك ما هو ساكن في الجمهور، أمام إمتحان خشبة لا تعطي إمتيازا، ولا تقرّب أحدا، ولا ترفع إلا من يخوض التجربة كإختبار وجودي.
urlr.me/HzguEA : لمزيد القراءة إليكم الجزء الأول
ملاحظة : أنقر الكلمات الملونة بالأزرق للتعرف على المراجع المعتمدة في هذا المقال النقدي.









































Commentaires