من صوت فردي إلى ذاكرة جمعية دون حدود أو قيود : قراءة في حفل أحلام بمسرح قرطاج - بقلم أسامة بن الحاج محمد
- أسامة بن الحاج محمد
- 22 août
- 5 min de lecture
Dernière mise à jour : 4 sept.
عادت الفنانة أحلام الشامسي بعد سبعةٍ وعشرين عامًا لتسدل الستار على البرمجة الرسمية للدورة التاسعة والخمسين من مهرجان قرطاج الدولي في مشهدٍ حمل منذ الإعلان عنه إنتظارات واسعة ووقعًا إستثنائيًا.
زاد حضورها المبكر إلى تونس بأربعة أيام من وهج الحفل ليصبح الموعد لقاءً يتجاوز حدود الغناء، جامعًا بين مطربة وجمهور أحبها بصدق، وحوارًا مع الذاكرة الجماعية وإستدعاءً لرمزية مكان يتجاوز الحجر إلى معنى الثقافة العربية في أفقها الرحب.
فأحلام سبقت حضورها بإشارات وتصريحات أكدت إمتنانها لتونس وذكّرت بمكانتها في قلبها، وردّت على ما رافق الحفل من شائعات خاصة عندما تداول الإعلام لخبر نيتها عدم تقاضي أجر ما منح الحدث بعدًا أخلاقيا، فتحول الحفل إلى حوار مفتوح مع الجمهور والإعلام، حيث تختلط الأغنية بالذاكرة والوفاء والإعتراف بالجميل.

عندما دقت ساعة الحفل على الساعة العاشرة ليلا في يوم الواحد والعشرين من أوت، أغسطس، غصّ مسرح قرطاج بجمهور غفير غطّى المدارج في صورة تؤكد مكانة هذا الفضاء كأرشيف حي للأغنية العربية وملتقى للأصوات من الخليج إلى المغرب الكبير.
كما وزّعت أحلام على الحاضرين هديّة تتمثل في أساور ضوئية خلقت وحدة بصرية متناغمة بين صوتها والبحر البشري الذي رافقها، فيما مهّد فيديو إستهلالي قدّم سيرتها وتجربتها الطويلة لصعودها الركح.
ومن هناك إنطلق الغناء في رحلة إمتدت ثلاث ساعات متواصلة، تعاقبت فيها الأغاني بروح متجددة ومزيج من الطرب والفرح والإحتفاء، فتحوّل الحفل إلى ليلة مكتملة الأركان أعادت قرطاج إلى لحظة فنية تليق بختام مهرجانها.
بُني الحفل على مسار غنائي محكم؛ فقد إفتتحت أحلام السهرة بتثبيت هوية صوتها في المدرسة الخليجية الحديثة، ثم إنفتحت تدريجيا على أغان جماهيرية تراهن على المشاركة والترديد، وإنتقلت إلى محطات تكريمية حملت تحية للذاكرة العربية عبر إستحضار روح أم كلثوم في خمسينية رحيلها من خلال أغنية "غنيلي شوي"، مع إطلالة على التراث المحلي التونسي عبر أغنية "مڨياس يعجب" التي غنتها سنة 1997 في أول حضور لها في هذا المسرح .
هذا القوس الغنائي لم يأتِ كتوزيع عشوائي للأغاني، وإنما كدراماتورجيا تخاطب ثلاثة فضاءات في آن واحد : الخليج ومصر وتونس. وقد شكّل أداؤها لأغنية "عالمقياس نغنّي" علامة فارقة في السهرة، جاء كفعل إندماج ثقافي يختصر طبيعة التبادل بين المشرق والخليج والمغرب العربي.
نلتمس في هذا الوصل الغنائي مقاصد الفنانة التي تؤكد أن صوتها جواز عبور بين محيطات موسيقية وثقافية مختلفة. حيث منحت هذه القدرة على ربط الأمكنة والأزمنة الحفل بعده الرمزي، فجمهور قرطاج وجد نفسه يعيش تجربة تجمع بين التماهي مع العاطفة والدهشة أمام المهارة والثبوت رغم مرور الزمن.
في عودتها إلى ركح قرطاج لم يبق الغناء حبيس هويتها الخليجية، إذ تعدى ذلك إلى إيماءات لسانية وموسيقية أرادت من خلالها أن تقترب أكثر من الجمهور التونسي من خلال تواضعها و التفاعل معه لمعرفة ماذا يريد.
علما وأنّ إختيارها هنا لم يكن عابرًا، فالأغنية التونسية ذات بنية إيقاعية مختلفة، وإدراجها في برنامج فنانة خليجية يبرز قدرة الصوت على إستيعاب مقامات أخرى وعلى إدراك خصوصية الذائقة المحلية. الخلجيون في حقيقة الأمر لهم نوع من السهولة إزاء الأغنية التونسية على غرار ما قام به حسين الجسمي على سبيل المثال مع أغنية الهادي حبوبة "هاك دلالي".
ومن منظور سوسيولوجيا الغناء، يمكن قراءة هذه الإلتفاتة كتعبير عن "تمصير صوتي" (Le pointage vocal)، أي أن الفنانة تستعير لغة الجمهور الموسيقية لتعيد إنتاج جسور القرب، فيتحول المسرح إلى فضاء لتبادل الإعتراف.
الأمر نفسه تكرر في لحظة الختام حين صعد طفل إلى الركح وغنى معها، في مشهد بدا للوهلة الأولى تلقائيا وعاطفيا، غير أن معناه أعمق من ذلك، فهو يجسد الإمتداد بين الأجيال، ويحوّل الأغنية من أداء إحترافي مغلق إلى فعل جماعي مفتوح.
وهذا ما يحيلنا إلى الدراسات الموسيقية، التي يُعتبر إشراك الأطفال في الأداء المباشر فيها شكلاً من أشكال "التلقي التشاركي" (Réception participative)، حيث يتحول المتفرج إلى مساهم في صناعة النص الغنائي.
وفي هذا المشهد تلتقي التجربة الفردية لأحلام كفنانة مخضرمة مع التجربة البريئة للطفل كرمز للمستقبل، فيتجلى معنى الإستمرارية الثقافية التي يعوّل عليها أي مهرجان ذي بعد حضاري.
من الزاوية الصوتية، كان لافتًا أن أحلام حافظت على وضوح مخارجها في أداء المقاطع التونسية، وهو ما يدل على وعيها بضرورة "تكييف الحنجرة" مع نبرات لهجة تختلف عن الخليجية في مخارج الحروف والإيقاع الداخلي للكلمة، هذا التكييف يحتاج تحكما دقيقا في الحبال الصوتية والجرس بحيث لا يضيع الخط اللغوي ولا تتشوه الهوية الصوتية للفنان.
وهنا قدّمت مثالا عمليا لما يسميه بعض الباحثين في علم الأصوات "إزدواجية الطبقة الصوتية" (Phonetic layering)، أي القدرة على الإنتقال من نظام فوني إلى آخر مع الحفاظ على هوية الأداء الأصلية.
أما على المستوى الثقافي، يمكن النظر إلى أدائها لمقطع تونسي ضمن "الإشعاع الرمزي" كما أشار إلى ذلك الباحث الفرنسي إيف وينكين. فالفنان-المغني حين يتبنى جزءا من هوية الآخر، يراكم رصيدًا إضافيًا من القبول والمشروعية مع جمهوره لفترة مشهدية محددة في المكان والزمان.
ويترجم هذا التبنّي في الصورة التي تُبنى لاحقًا حول الفنان كحامل لقيمة الإنفتاح والتنوع.
أما مشهد الطفل في الختام، فيعيدنا إلى ما تحدّث عنه ميشال دو سرتو حول "إستراتيجيات التلقي"، حيث لا يظل المسرح فضاءً للنخبة بل يصبح منفتحا على العفوية والبراءة.
هذا المزج بين الغناء الخليجي والتونسي، وبين صوت الفنانة وصوت الطفل، يمكن أيضًا قراءته في ضوء نظرية "الهجنة الثقافية" (The cultural Hybrid) عند هومي بابا، حيث لا يعود النص الغنائي ملكية خالصة لمبدعه، ليصبح كذلك مساحة لقاء يتفاوض فيها المختلفون على هوية مشتركة...
الأداء الصوتي في مجمله كشف عن نضج ووعي، فقد أحسنت أحلام الإقتصاد في الزخرفة، فوزعت التحليات على الكلمات المفتاحية دون إفراط أو إستعراض، ما أتاح للكلمة أن تظل واضحة وشفافة.
كما بدا صوتها مرتاحًا في القرار والدرجات الوسطى، وصعودها إلى الجواب كان محسوبًا، يُستخدم كإشارة ترقيم لا كغاية إستعراضية، ورغم بعض الحدة العابرة في القفلات التي فرضتها طبيعة الفضاء المفتوح والرطوبة، ظل الأداء متماسكا قادرا على الحفاظ على فصاحته، مما سمح لها بالتنقل بين اللهجات والألوان دون أن تفقد هويتها الصوتية.
فرقة مصاحبة متميزة وأجواء محفلية
وهنا كذلك لا يفوتنا الحديث عن الفرقة الموسيقية التي أسهمت بشكل أساسي في نجاح السهرة، حيث جمعت بين الإيقاع الخليجي المميّز والجملة الأوركسترالية العربية الواسعة، فخلقت أرضية هجينة تتناسب مع صوت أحلام ومع فضاء قرطاج في آن واحد.
أما بصريا خدمت الإضاءة بدورها منحنى الحفل، فاختارت الألوان الدافئة في الأغاني الرومانسية، وتلاعبت بالتباينات في لحظات الذروة والتحية، فيما إشتغلت الكاميرات على لقطات قرب أبرزت الجانب الإنساني والتأثر في ملامح الفنانة في خطاب جمالي مواكب للأداء أضاف عمقًا آخر.
مقاطع من الحفل. مصدر الفيديو: مهرجان قرطاج
وفي خضمّ الأجواء الإحتفالية تجاوب الجمهور بدوره بحماس كبير، وكان طرفًا مشاركًا في بناء اللحظة. بتصفيق متكرر، وترديد للّوازم، والنداءات التي إنطلقت من الخشبة نحو مدرجات المسرح مجسدة مشاركة جمعية حولت الأغاني إلى ذاكرة مشتركة.
وقد أحسنت الفنانة إدارة هذه المشاركة التي تجلت في لحظات الصمت لتترك للجمهور جملة موسيقية كاملة. وفي أحيان أخرى عرفت أحلام بخبرتها متى تستعيد القيادة بحزم، مما جعل السهرة أقرب إلى مهرجان تواصلي حيّ منها إلى عرض فردي.
تجاوز العرض حقيقة حدود الموسيقى إلى معنى ثقافي أعمق. فقد أثبتت المبدعة أحلام أن المسافة بين الإيقاع الخليجي والذائقة المغاربية تلاشت، وأن الأغنية الخليجية التي بدأت منذ عقود رحلتها نحو الإنتشار العربي، صارت اليوم قادرة على أن تُختار لإغلاق أعرق مهرجان عربي في إختيار يعكس إعترافًا بمكانة نمط موسيقي ترسّخ في المشترك الثقافي العربي.
ورغم بعض الملاحظات التي قد يسجلها الناقد، مثل طول السهرة أو الحاجة إلى تحكم أدق في الميكروفون في لحظات الذروة وبعض الهينات التقنية على مستوى التوضيب الصوتي، فإنها تفاصيل لا تنقص من قيمة التجربة و تضيف ملامح طبيعية إلى عرض حي في مسرح مفتوح.
ختاما أحلام قدّمت درسًا في "فن العودة" تجلّى في صوت ناضج يوازن بين العاطفة والمهارة في برنامج محسوب يجمع بين المرجعية والجماهيرية، ثمّ سردية إنسانية تجعل من الغناء حدثًا ثقافيًا بإمتياز، شكّل الحفل فيها ختامًا لمهرجان قرطاج، وإغلاقًا لقوس وفتحًا لآخر، قوس يعيد للأغنية الخليجية حضورها في فضاء مغاربي يتسع أكثر، وقوس يفتح فيه قرطاج أبوابه لختامات تفكر في المعنى بقدر ما تفكر في الموسيقى.
ناقد فني وأستاذ تربية مسرحية وصحفي بإذاعة المنستير





















كل التوفيق لأحلام الأصيلة التي أظهرت محبة كبيرة وعميقة لتونس.. فعلا تستحق التكريم من الدولة التونسية على الكلمات الطيبة التي قالتها عن بلدنا
مقال رائع بكل ما تحتويه الكلمة من معاني
شكرا على هذا المقال التحليلي وعمق التفكير وفك شيفرات العرض الاختتامي لمهرجان قرطاج