الدّورة الأولى لقابس سينما فن: السّينما على الطّريقة القابسية
اتّجهت الأنظار والأقلام في المدّة الأخيرة بين الثاني عشر والثامن عشر من أفريل 2019 إلى جَنُوب شرقي البلاد، هناك في قابس، المدينة الساحلية الواقعة على بعد 400 كيلومتر من العاصمة أين انتظمت الدّورة الأولى لمهرجان "قابس سينما فن". هذه التظاهرة الفريدة من نوعها فاقت الانتظارات حسب عديد المتابعين والمختصّين في الحقل الثقافي والسينمائي على وجه الخصوص.
"تعال شوف"، دعوة طريفة على الطريقة القابسية، اختارها القائمون على المهرجان شعارا لدورة التأسيس التي علّقوا عليها آمالا كثيرة وحرصوا على حسن تنظيمها وإخراجها لأنّها ببساطة نتاج أشهر من العمل والتّنسيق. الدّعوة لم تقتصر فقط على مشاهدة الأفلام إنّما كانت دعوة مفتوحة لاكتشاف المدينة التي كانت في زمن غير بعيد مدينة سينمائية بامتياز ومصدرًا لعديد الأسماء البارزة على الساحة الفنية لعلّ أهمّها المخرج الطّيب الوحيشي الذي غادرنا منذ سنة والذي حمل اسمه أحد أعرق نوادي السينما في المدينة وفي البلاد.
طبيعة المدينة النادرة أين يلتقي البحر بالواحة والصحراء والجبل في رقعة صغيرة جعلتها وجهة سياحية ثقافية لعقود عديدة أهمّها حقبة السّبعينات والثّمانينات وربّما امتدّت هذه الفترة إلى أوائل التّسعينات قبل أن تهبّ رياح الجنوب الرملية وتحمل معها تصحّرا ثقافيا أو سينمائيا، بصفة أدقّ، سيما بعد غلق قاعة "سينما الجوهرة" وهدم قاعة "سينما الخضراء".
قاعة لاغورا في الموعد
سبات دام سنوات لكنّه لم يمنع المدينة من أن تنهض مجددًا وتتزيّن بكحلها وحنّائها لتستقبل العرس الجديد الذي قد تستعيد معه مجدها السينمائيّ وتاريخها الفنيّ الحافل. هناك على بعد أمتار من سينما الخضراء انتصبت قاعة لاغورا وفتحت أبوابها لتحتضن فعاليات المهرجان وتعرض فيها أغلب أفلام الدّورة. السّاحة العامة أو دار الشعب (دار الحزب قديما) تحوّلت من مبنى مهجور التهمت منه النيران ما التهمت أيّام حراك جانفي 2011، إلى قاعة مجهّزة بكلّ التّقنيات لتعرض فيها الأفلام مدّة المهرجان وتتواصل بعده على مدار السّنة.
كانت هذه مفاجأة القائمين على الدّورة للجمهور في حفل الافتتاح. سينما المؤلّف كانت خِيار المهرجان الذي أكّدت إدارته الفنية على كونها تبحث عن العمق في الطّرح وهي بذلك تتجنب الأعمال "المستهلكة والتّجارية" سيما وقد تمّ التّركيز على السّينما العربية المستقلّة التي صارت اليوم تشهد ثورة في الإنتاج وفي الكتابة والتّصوّر وباتت تنافس السينما الغربية والآسيوية وتلقى رواجًا في عديد المهرجانات العالمية.
هذا التّوجّه الفكريّ والفنيّ لم يمنع حضور مظاهر الاحتفال والبهرج التي نشاهدها عادة في المهرجانات الكبرى ذات التّقاليد العريقة: السّجاد الأحمر والأضواء ونجوم الفنّ السابع والمشاهير من فنانين وإعلاميين والشّاشات العملاقة في الساحات العامة، كلّ هذه العناصر كانت حاضرة في مدينة قابس التي أحسنت استقبال ضيوفها من تونس والعالم وأظهرت حرفية كبرى في التّنظيم بشهادة جلّ الحاضرين انطلاقًا من حفل الافتتاح الذي كان بعرض فيلم "ليل خارجي" للمخرج المصري الشاب أحمد سيّد عبد الله، وذلك في عرضه الأول بتونس وبحضور بطلته منى هلا.
يعكس هذا الاختيار فلسفة المهرجان وخطه السينمائي الداعم للأفلام العربية المستقلة خاصة وأن أحمد سيد عبد الله عدّ من أهم مخرجي السينما المستقلة الشباب في المنطقة العربية وسبق وتوج بالتانيت الذهبي لأيام قرطاج السينمائية بفيلم "ميكروفون" سنة 2010.
الانفتاح على الفضاء الخارجي
وشملت المسابقة ثلاث أقسام: قسم للأفلام الرّوائية الطّويلة وقسم للأفلام الرّوائية القصيرة وآخر للأفلام الوثائقية وشارك في أقسام المسابقة 22 فلما من عشر دول عربية. أمّا العروض الموازية فشملت نافذة على السينما التّونسية وفيها عرضت عشرة أعمال من أهم الأفلام التونسية على غرار فيلم "في عينيا" و"ولدي" و"فتوى" إضافة إلى تخصيص نافذة للسّينما العالمية عرض فيها عشرة أفلام من العالم. واختار المهرجان تكريم مدير التّصوير التّونسي الرّاحل يوسف بن يوسف بعرض عدد من أفلامه على غرار "ريح السد" للمخرج نوري بوزيد و"صمت القصور" للمخرجة "مفيدة تلاتلي" و"الليل" للمخرج محمد ملص إضافة إلى تكريم السينمائي الجزائري مالك بن مالك بعرض أبرز أعماله وهي "إغتربات" و"ولو في الصين" (2010) و"معركة الجزائر في التاريخ" (2017).
ومن بين الفقرات التي لاقت استحسان الجمهور والمتابعين فقرة الأطفال التي عرضت فيها أربع أفلام من العالم موجّهة للطّفل إضافة إلى برمجة عروض في الجهات بمعدّل عرضين في كلّ من معتمديات مارث والحامة ومطماطة وبرمجة عرضين في الفضاءات الخارجية: عرض في سوق جارة وآخر في سوق المنزل وهما حيان من أشهر الأحياء في المدينة وأقدمها وقد شهد العرضان إقبالا جماهيريا كبيرا ورأى فيها النّقاد عودة إلى الأصل لأنّ السّينما في بدايتها كانت تنتقل إلى الأحياء لتعرض على الجدران وهو ما انتهجته إدارة المهرجان التي تؤكّد سعيها لتكوين جمهور سينمائي متابع وناقد وهو ما جعلها تنقل السّينما من القاعات المغلقة إلى الفضاءات المفتوحة التي كانت لها تقاليدها في الذّاكرة الفنية للمدينة.
البحر كان في الموعد أيضا من خلال تركيز تسعة حاويات ضخمة احتضنت مجموعة من معارض الفنون البصرية من فنّ تشكيليّ وصور فوتوغرافية وفيديو وغيرها من الفنون المشكّلة للصورة السينمائية التي هي في الأصل نتاج هذه الفنون التي كانت حاضرة طيلة أيام المهرجان بكورنيش قابس في تظاهرة تسعى إلى تقريب الفنون البصرية من الجمهور عبر عرضها في الفضاء العام وامتدّت هذه التّظاهرة إلى عرض الأشرطة الوثائقية في عدد من المقاهي بالجهة ومناقشتها.
ولعلّ من أهم محطّات المهرجان هاكتون الواقع الافتراضي أوركن الواقع الافتراضي وهو نوع سينمائي جديد مخصص لاستكشاف الأعمال السينمائية في الحقيقة الافتراضية، التّجربة الجديدة التي لم يسبق لمهرجان عربي برمجتها وتسعى إلى الغوص في العوالم الافتراضية العميقة ومجاراة النّسق السّريع لتقنيات التّصوير الحديثة. يتوجّه الهاكتون إلى الطلبة في المجال السمعي البصري. وقد تنافس المشاركون في هذا الرّكن على إنتاج فيلم حقيقة إفتراضية باعتماد تقنية فيديو 360 درجة خلال أيام المهرجان.
وقد توّج فيلم "بين ثناياها" بالجائزة الأولى لهذا الرّكن الذي لم يقتصر فقط على المسابقة إنما كان فرصة لاكتشاف أفلام الواقع الافتراضي. عالم رقمي خيالي برمج بفضاء المركّب الثّقافي على امتداد أيام المهرجان وشهد مشاركة كبرى من قبل كلّ الفئات العمرية من أطفال وشبان وكهول وشيوخ أبدوا انبهارهم بهذه التّجربة التي تجعل المشاهد يعيش الفيلم وكأنّه إحدى مكوّناته فيتفاعل معه بأحاسيسه وحركته وكلامه.
المهرجان فرصة للتّفكير
المهرجان كان فرصة للتّدريب فقد برمجت إدارة الدّورة درسا في إدارة التّصوير سفيان الفاني و أمين المسعدي ودرسا في التّمثيل مع هند صبري و ليانا صالح وكانت الدّروس موجّهة بالأساس إلى الطّلبة في المجال السّمعي البصريّ لكنها شهدت حضور المحترفين أيضا والممثّلين والمخرجين الذين تفاعلوا مع ما قدّم و أثروا النّقاش وتبادلوا الأفكار والتّجارب مع الحاضرين.
هل أن السينما العربية تمثل انعكاسًا لنفسها وتاريخها أم أنها تتأثر تيارات واتجاهات سينمائية أخرى؟
كان هذا التّساؤل المطروح في حلقة النّقاش التي انتظمت على امتداد يومين حول كيفية طرح مشاغل السينمائيين من حيث الموارد في حين أن مسالك التمويل مرتبطة أساسًا بالديناميكية السياسية للعلاقة بين الشمال والجنوب، فهل أنّ السّينما العربية تنقل حقيقة الوضع من خلال أفلامها أم أنها تبث تصورها عن الانتظارات المختلفة منها و بالتالي فهي تحاكي التوقعات العالمية والرؤى والأفكار المسقطة على واقع السينما العربية. وقد أكّد القائمون على المهرجان بالمناسبة طموحهم لأن يكون "قابس سينما فن" نقطة لقاء بين المحترفين لتبادل الأفكار حول سوق السينما، محافظًا على توجّهه وفلسفته ألا وهي الابداع الحر و المستقل.
دورة أولى من قابس سينما فن نجحت إلى حدّ بعيد في مصالحة الجمهور مع قاعة السّينما وهو ما يؤكّده الحضور الجماهيري الكبير لعدد من الأفلام التي عرضت أمام شبابيك مغلقة وهذا حجر الأساس الذي ستبنى عليه الدّورات القادمة من التظاهرة التي شهدت مشاركة هامّة لشبان الجهة. هؤلاء ساهموا في نجاح المهرجان الذي ولد كبيرًا بتوصيف جلّ ضيوف المدينة التي كسرت الحاجز بين الشمال والجنوب ثقافيًا وأكّدت مرّة أخرى أن ّ على أرضها فعلا ما يستحقّ الحياة.
الواثق بالله شاكير