top of page

"البخّارة": مسرحية اجتماعية نقدية تروي عينة من مأساة سكان قابس (بقلم أسامة بن الحاج محمد)

أسامة بن الحاج محمد

كان بروميثيوس، في الميثولوجيا الإغريقية، هو التيتان الذي تحدى الآلهة بمنح النار للبشر، رمزًا للمعرفة والقوة، إلا أنه عوقب بوحشية، كما ظل صامدًا، يرفض الاعتذار أو الخضوع لسلطة زيوس. يأخذنا هذا النموذج الأسطوري كوسيلة أساسية لطرح القضايا الإنسانية والاجتماعية الكبرى.عبر هذا آلاستلهام من الميثولوجيا، حيث نجح المسرح اليوم في تجاوز حدود الزمان والمكان ليتناول قضايا شاملة تخاطب أعمق الصراعات البشرية فتصبح الأسطورة، بما تحمله من رمزية وشمولية، أداة قوية لطرح الأسئلة الكبرى حول الحرية، العدالة، والتمرد ضد القهر.

"البخّارة" هي مسرحية اجتماعية نقدية تتناول مأساة سكان ولاية قابس الذين  يتعرضون للتلوث والمرض بسبب وجود معمل للمواد الكيميائية. يُظهر النص كيف أصبح هذا المعمل رمزًا للكارثة التي حلت بالمدينة وأبنائها، حيث تسبب في انتشار الأمراض القاتلة بين السكان وأودى بحياة الكثيرين، بما في ذلك الأطفال والنساء.     تعدّ  "البخّارة" عملًا دراميًا بامتياز، حيث تتناول مأساة إنسانية عميقة بواسطة أحداث مشحونة بالعاطفة والصراع. ومع ذلك، فقد نجح المخرج الصادق الطرابلسي في مزج الكوميديا السوداء داخل هذا العمل الدرامي، مما أضاف له بعدًا مميزًا حيث  لم تكن مجرد أداة لتخفيف حدة التوتر، بل كانت وسيلة نقدية عميقة تكشف تناقضات الواقع المأساوي الذي يعيشه سكان المدينة.
مشهد من مسرحية البخارة. لعب رمزي عزيز ومريم بن حسن. مصدر الصورة أيام قرطاج المسرحية

وعليه في قاعة واسعة تتنفس صمتًا مشحونًا بالمعاني، وفي ظلال أضواء خافتة تخترق العتمة، ينكشف الستار عن عرض مسرحي ينبض بالأسئلة. هنا، في هذا الفضاء المعلق بين الواقع المخفي والواقع المرئي، و في إطار الدورة الخامسة والعشرين من أيام قرطاج المسرحية وضمن المسابقة الرسمية للمهرجان قدّم قطب المسرح والفنون الركحية - مسرح أوبرا تونس يوم الأربعاء 26 نوفمبر 2024 بفضاء قاعة الفن الرابع عرضا مسرحيًا تحت عنوان "البخارة" للمخرج الصّادق الطّرابلسي منافسًا إحدى عشر عملا مسرحيّا من تونس وإفريقيَا والعالم العربي.


وإن كان أوّل تجارب يخطّها الصادق الطرابلسي فقد ولد العرض من رحم واقع مأزوم، حيث تداخلت هموم الفرد مع أزمات الجماعة، وحيث صوت المسرح لم يكن مجرد ترفيه، بل فعلًا من أفعال المقاومة. في هذا السياق، نجد أنفسنا في لحظة تاريخية تضج بالاضطرابات، ربما كان المكان فيها ساحة مدينة مضطربة، أو بلدة هادئة تخفي تحت سكونها ثقلًا من القهر، و الزمان وإن بدا محددًا بتقويم معين، يتسع ليشمل ماضٍ يلاحق الحاضر، وحاضر يسائل المستقبل.


خرافة الأمس تكرّر نفسها اليوم في واقع لم يتغيّر


"البخّارة" هي مسرحية اجتماعية نقدية تتناول مأساة سكان ولاية قابس الذين  يتعرضون للتلوث والمرض بسبب وجود معمل للمواد الكيميائية. يُظهر النص كيف أصبح هذا المعمل رمزًا للكارثة التي حلت بالمدينة وأبنائها، حيث تسبب في انتشار الأمراض القاتلة بين السكان وأودى بحياة الكثيرين، بما في ذلك الأطفال والنساء.


تعدّ  "البخّارة" عملًا دراميًا بامتياز، حيث تتناول مأساة إنسانية عميقة بواسطة أحداث مشحونة بالعاطفة والصراع. ومع ذلك، فقد نجح المخرج الصادق الطرابلسي في مزج الكوميديا السوداء داخل هذا العمل الدرامي، مما أضاف له بعدًا مميزًا حيث  لم تكن مجرد أداة لتخفيف حدة التوتر، بل كانت وسيلة نقدية عميقة تكشف تناقضات الواقع المأساوي الذي يعيشه سكان المدينة.


تبدأ الأحداث عندما يصبح "البخّارة" المعمل محور الحياة اليومية في المدينة، ليس من حيث الإنتاج أو الوظائف التي يوفرها، بل بسبب الأضرار التي يخلفها. يعمل البعض في هذا المكان رغم معرفتهم بخطورته، لأنهم مضطرون لتأمين قوت يومهم.


فتظهر معاناة سكان المدينة الذين لا يستطيعون الهروب من التلوث، حيث ينتشر المرض والموت تدريجيًا بين العائلات. ليبرز الصراع في مرحلتين الأولى بين السكان والسلطة : يُظهر النص صراع السكان ضد أصحاب السلطة والمسؤولين عن المعمل الذين يهملون معاناتهم ويرفضون اتخاذ أي إجراءات لإنقاذهم. والثانية بين الأفراد أنفسهم  حيث هناك انقسام بين سكان المدينة: البعض يطالب بإغلاق المعمل، في حين يفضل آخرون استمراره خوفًا من فقدان مصدر رزقهم. وتجلى كل هذا في "عائلة نموذج" متكوّنة من أربعة أفراد تختلف أعمارهم ومستوياتهم الفكرية إضافة إلى صاحب المعمل ممثّل رأس المال والسّلطة.


الشخصيات ودورها في تجسيد الصراع الطبقي والإنساني


تُظهر المسرحية تباينًا واضحًا بين شخصياتها من حيث التعامل مع المصير والصراع مع الظروف الاجتماعية والسياسية. وقد تبلور ذلك في شخصيّة "دلال" التي لعبتها مريم بن حسن  وهي مركز الحنان في العائلة، شخصية تجمع بين الحب والصبر، حيث تعبر عن نموذج المرأة التي تحمل على عاتقها همومًا مضاعفة. إنها رمز للتضحية الذاتية، تعتني بزوجها، وتتحمل عبء رعاية أبيه وأخيه، رغم اكتشافها المؤلم بأنها لا تنجب، وأنها مصابة بالسرطان. هذه الشخصية تعرض الهشاشة الإنسانية وقوة التحمل في آن واحد.


أما شخصية يحيى التي تقمّصها بلال سلاطنيّة، الزوج العامل مصنع البخارة الذي يمثل الطبقة العاملة التي تعاني من القهر والظلم. هو رجل خضع لواقعه، وقبل بالعمل في ظروف قاسية وخطرة، في ظل غياب أي بديل. استسلامه يعني التناقض بين الوعي بالمخاطر وعدم امتلاك الإرادة للتغيير. بالنسبة إلى "نضال" الأخ الأصغر ل"يحيى"، هو النقيض التام له. شخصيته ديناميكية، مليئة بالغضب والتمرد على الوضع القائم. رفضه للعمل في تطرح إمكانية ومشاركته في الانتفاضة ضده يجعلان منه رمزًا للصراع الثوري. شخصية نضال التي أدّاها علي بن سعيد تطرح إمكانية وعي جديد يظهر داخل الطبقة العاملة، وهو صوت الكرامة الذي لا يرضخ للاستغلال.


في نفس الحلقة نجد نضال عزيّز في أداءه لدور "المولدي" الأبُ العجوز المصاب بالزهايمر، وهو يمثل عبئًا إضافيًا على العائلة، فهو ليس فقط رمزًا للمرض والعجز، بل أيضًا للذاكرة الجماعية المتلاشية. وجوده في المسرحية يطرح سؤالًا أخلاقيًا وإنسانيًا: كيف يمكن التعامل مع عبء الماضي في ظل حاضر يستهلك جميع القُوَى؟


 وفي زاوية أخرى تتجلّى شخصية بليغ، صاحب المعمل، وهو الشخصية المضادة التي تحرك الأحداث من خلف الستار، يمثل جشع الرأسمالية وفاشيتها، حيث يرى العمال مجرد أدوات لإثراء مصالحه. شخصيته تُظهر تبلّد الحس الإنساني مقابل السعي الأعمى وراء الربح.


مع هذه الشخصيات يتجلى الحضور الجسدي كمحور أساسي يهيمن على العرض المسرحي، ليصبح وسيلة تعبير قوية تتجاوز حدود النص المكتوب، إذ اعتمد الإخراج بشكل بارز على لغة الجسد لتجسيد المشاعر والصراعات الداخلية والخارجية التي تواجهها الشخصيات، مما جعل الأداء المسرحي مشحونًا بالتوترات والانفعالات التي تصل مباشرة إلى المتلقي، وفي إيقاع حركي اعتمد المخرج على تغير الإيقاع الحركي لتصعيد التوتر، في البداية حركات بطيئة وآلية تظهر الرتابة والضغط اليومي. وفي لحظات الصدام حركات متسارعة وعنيفة تبرز الانفجار النفسي حتى دون الحاجة إلى الحوار.


رمزية الملابس ودورها في تجسيد الصراع الدرامي للشخصيات


تلعب ملابس الشخصيات في "البخارة" دورًا مركزيًا في تجسيد الصراعات الطبقية والإنسانية. فهي لا تعكس فقط الأوضاع الاقتصادية لكل شخصية، بل تساهم أيضًا في نقل التطور النفسي والصراع الداخلي للشخصيات. يعزز الاختلاف بين ملابس الطبقة العاملة (يحيى ودلال) وملابس الطبقة الرأسمالية (بليغ) الصراع الطبقي في المسرحية، ثم أن التناقض بين ملابس يحيى ونضال يكشف عن الصراع الداخلي بين الرضوخ والمقاومة.


تتغير الملابس تدريجيًا مع تصاعد الأحداث. على سبيل المثال، تغيرت ملابس دلال لتصبح  أكثر شحوبًا مع تدهور حالتها الصحية، بينما ازدادت ملابس نضال قتامة وعنفًا مع تصاعد تمرده، مما يظهر التحولات الدرامية لكل شخصية. عمومًا تُبرز ملابس شخصيات "البخارة" صورة شاملة للصراع الإنساني والاجتماعي و تعمل كأداة فعّالة لتعزيز رؤية المسرحية ونقل رسائلها العميقة حول الظلم الطبقي والهشاشة الإنسانية.


الإخراج في مسرحية "البخارة": تنظيم الفضاء المسرحي وهندسته سينوغرافيًا


يمثل الإخراج في مسرحية "البخارة" جانبًا أساسيًا في نقل الصراعات النفسية والاجتماعية التي تمر بها الشخصيات، ويعتمد على بناء فضاء مسرحي يظهر القضايا المطروحة كما ذكرناها في السابق ولتحقيق هذا الهدف، استند الإخراج إلى تصميم سينوغرافي متكامل، استخدم تقنيات الإضاءة والبروجيكسيون (الإسقاط الضوئي) لتكثيف التجربة المسرحية.


كما أبرز تنظيم الفضاء المسرحي طريقة ديناميكية بحيث يعبر عن التناقض بين العوالم المختلفة داخل النص. إذ تم تصميم المنزل لكي يحيل إلى الفقر والبساطة، باستخدام أثاث متواضع وزوايا ضيقة تظهر الاختناق الذي تعيشه الأسرة. يتحول المنزل لفضاء مضغوط بصريًا ثم إلى مكان يحمل عبء الشخصيات ويظهر انكساراتها النفسية: كما في المشاهد التي تظهر فيها الثورة أو التمرد. ظهر الفضاء مفتوحًا و وفوضويًا حيث يتلاشى الترتيب الصارم الذي ساد المشاهد الأولى من العرض. هذا يعبر عن الانفلات عن السيطرة والرغبة في التغيير.


كذلك نجد فضاء منزل صاحب المعمل الذي مثّل تناقضًا صارخًا مع الفضاءات الأخرى، خاصة منزل الأسرة العاملة. صُمم هذا الفضاء ليتيح مشاهدة الرَفَاهيَة المفرطة والهيمنة الرأسمالية التي يمثلها "بليغ"، ليكون رمزًا بصريًا للقوة الطبقية والجشع مقابل الفقر والمعاناة التي يعيشها العمال.


الإضاءة ودورها التعبيري بين الرمزية والواقعية


أدّت الإضاءة دورًا مهمًا في تشكيل الفضاء المسرحي ونقل الحالة النفسية للشخصيات والصراعات التي تمر بها. استخدمت الإضاءة الخافتة في المنزل لإبراز الحزن واليأس الذي تعيشه الشخصيات، مع توظيف الظلال لتشير للثقل النفسي والضغوط الاجتماعية. في المقابل، كانت الإضاءة القاسية في فضاء ما بين المنزل والشارع ترمز إلى الطبيعة العدوانية والمميتة، حيث تُبرز الأضواء الساطعة والمتقطعة إحساسًا بالخطر والقلق. تغيرت الإضاءة تدريجيًا مع الأحداث ومع تصاعد مشاهد الانتفاضة، حيث استخدمت أضواء نابضة أو متقطعة لتشير للفوضى وللانفعال. كان الإسقاط الضوئي (البروجيكسيون) كذلك أداة مهمة في المسرحيّة، حيث ساهم في تعزيز الرمزية البصرية والتكامل بين الفضاء المسرحي والأحداث الدرامية.


الإخراج كأداة لتعميق التجربة المسرحية


وظف المخرج الصادق الطرابلسي  في "البخارة" الفضاء المسرحي بشكل يجعل الجمهور يشعر وكأنه جزء من الصراع الذي يدور بين الشخصيات. مع السينوغرافيا والإضاءة والتقنيات الحديثة التي جاءت لتكمل النص وتزيد من تأثيره الدرامي، الإضاءة والبروجيكسيون خلقا عوالم متداخلة تظهر حالات الشخصيات النفسية والاجتماعية. تصميم الفضاءات عبّر هو بدوره عن الانقسامات الطبقية والتناقضات النفسية، مما أعطى المسرحية بعدًا بصريًا قويًا يتناغم مع المضمون الفكري.


عمومًا الإخراج في "البخارة" كان واعيًا بدور الفضاء المسرحي في التعبير عن القضايا الكبرى التي تناقشها المسرحية، ونجح العرض في استثمار السينوغرافيا والتقنيات الحديثة لإبراز الصراعات الإنسانية والاجتماعية بشكل حيّ و مؤثّر. الرؤية الإخراجية لمسرحية البخارة حققت توازنًا بين العمق الفكري والاختيارات الجمالية بواسطة استثمار عناصر السينوغرافيا بشكل يوصل رسالة المسرحية بوضوح: الصراع لا يقتصر على البعد الاقتصادي الرأسمالي بل يتغلغل في كل تفاصيل الحياة اليومية حتى في الفضاءات التي تحيط بالإنسان. مما يجعل "المولدي" يصرخ بحسرة وأسى : "ويني الشّمس؟"...الجملة التي انطلقت بها أولى كلمات المسرحية.


إن مضمون البخارة يحيل بشكل كبير إلى مقولة أنطونين آرتو، إحدى أعمدة المسرح الحديث: "المسرح ليس مجرد نسخ للواقع، بل هو طاقة حية تتدفق من الجسد والفضاء لتفجّر أعمق ما في النفس الإنسانية." تُجسّد هذه المقولة بلا أدنى شك جوهر مسرحية البخارة، حيث يتجاوز العرض حدود النص ليخلق تجرِبة مسرحية نابضة بالحياة، تجمع بين الجسد والفضاء والسينوغرافيا لتكشف عن الصراع الإنساني والمجتمعي بشكل بصري وحسي عميقين.




Commenti

Valutazione 0 stelle su 5.
Non ci sono ancora valutazioni

Aggiungi una valutazione
 À l'affiche
Derniers articles
Archives

    Au départ, 2014, ce site était universitaire mais par la suite c'est devenu un des uniques endroit spécialisé dans la critique culturelle en Tunisie et qui produit des articles multimédias en trois langues: arabe, anglais et français. Pour plus d'information veuillez contacter Mohamed Ali Elhaou, le fondateur de ce média culturel: elhaou@gmail.com

    Vos informations ont bien été envoyées !

    bottom of page