زعمة يصافي الدّهر: من قصّة حزن إلى الخلود
منذ عشرات السنين، تترنّم على مسامعنا أنغام الأغنية التونسية "زعمة يصافي الدهر" و لا نعلم حقيقة مأتاها و الحال أنّها نِتاج لقصّة حبّ حزينة عاشها ملحّنها محمد التريكي. ولدت هذه الرائعة الموسيقية 1921 ليقدمها التريكي بعد ذلك إلى الراشيدية سنة 1934 ثم سجلتها أشهر فنانة تونسية على الصعيد العالمي في ذلك الوقت المطربة فتحية خيري عام 1936 مع إبراهيم رصاصيي، ثم غنتها أسطورة الأغنية الساحرة ذات الصوت القوي والبدوي الراقي صليحة و أدتها السيدة نعمة عندما تكونت الفرقة الموسيقية للإذاعة في بداية الأربعينيات من القرن الماضي.
سِرّ الأغنية
"زعما يصافي الدهر" أغنية جمعت عدة طبوع. الطابع هو المقام التونسي. هي تلقب بناعورة الطبوع : كل بيت من نغمة ولهذا تعتبر متن أو ديوان للنغمات. معاني الكلمات تترجم معاناة الملحن محمد التريكي الذي خسر حبيبته بسبب عمله في مجال الموسيقى، فالأب جعل شرط الزواج اعتزال التريكي للفن. يقول محمد التريكي في حوار تلفزي على قناة التلفزة التونسية أجراه في بداية التسعينيات "أنا حبي و أيماني بالموسيقى، هذيكا حياتي". فالموسيقى هي محركه الأساسي على الرغْم أن الحب والعشق هو نكهة العيش والحياة من منظوره.
بعد هذا الفراق عاش محمد التريكي حالة حزن قاسية ألزمته الفراش و حبيبته فارقت الحياة مخلفة ندبة في قلبه. ترجم هذه المشاعر بأغنية "زعما يصافي الدهر" فلحنها لنفسه و ظل يعيش بها في قلبه و عقله قبل أن يقدمها للراشيدية.
عمل صحفي بصوت عايدة بالسمرة
الموسيقى تولد من رحم الأحزان
من طبيعة المبدع محاولة نسيان أغلب ما يمر على حياته من مآسي و أحزان و لكنّ الموسيقي غالبا ما تداعب مشاعره وتصاحب عملية خلقه الفنية، كما الحال مع الملحن محمد التريكي الذي أضفى بصدق أحاسيسه ميزة خاصة على هذا الإبتكار الموسيقي الخالد. فبعد خروجه من فترة الحزن، أراد التعبير عن هذه الحرقة، فطلب إذن من الشاعر محمود بورڨيبة أن يكتُب له كلمات أغنية "زعمة يصافي الدهر" خصيصا له ليرثي حبيبته. قام هو بتلحينها سنة 1921.
زعمة يصافي الدهر يا مشكايا...ونعود نضحك بعد طول بكايا.
ترددت هذه الأغنية على أصوات عدّة على مدى عقود من الزمن و توارثها ألمع النجوم. ولا تزال تصدح عبر أصوات أجيال جديدة كصوت الشابة "ياسمين هنانة". هي رائعة نقشت في الذاكرة الجمعية وهي متجددة دائمًا إلى درجة أنه لا يمكن اعتبارها مجرد مقطوعة من التراث.
محمد التريكي ليس ككل الملحنين
تعلم التريكي أصول الموسيقى منذ الصغر على قواعد صحيحة بدراسة النوتة والعزف على آلة الكمان من قبل أساتذة من أوروبا في مدرسة العلوية. شغفه وحبه للموسيقى غير مسار حياته المهنية و العاطفية. ترك العمل كموظف حكومي في إدارة المال لينظم إلى جمعيات ومؤسسات فنية مثل الراشدية وجمعية الكوكب التمثيلي حيث لحن الأوبيرت وأغاني القصص الروائية. قام باكتشاف العديد من الفنانين في تونس ومنهم من تتلمذ على يديه كما قام بتلحين ما لا يقل عن ألفي قطعة موسيقية من أَغَانٍ وموشحات وسماعيات وأغاني مسرحية. هو ملحن دخل وترك بصمة لا تمحى في تاريخ الموسيقى في بلادنا. حيث ساهم في عصرنة طريقة التلحين عبر تدوين المعزوفات التي كان يتواترها المبدعون آنذاك شفويًا.
"زعمة يصافي الدهر" روعة تلحينية وكلمات من لؤلؤ تنبع من صميم الواقع وتعبر عن أحاسيس وظلم المجتمع. أغنية لم نعد نسمع مثلها في عصر أصبحت فيه الموسيقى استهلاكية تطغى عليها الربحية والركض وراء الشهرة السريعة. فهل نوجه اللوم اليوم إلى الفنان كاتبا أو ملحنا أم نلوم المستمع الذي لم تعد لديه أذن موسيقية ترفض الكلمات و الميلوديات المبتذلة؟
جيهان رحال و نسرين بن محمود و شيماء تابعي