top of page
ياسين بن سعد

الهادي الجويني ...لاموني اللّي غارو مني

الى القلب مباشرة تنفذ أغاني الهادي الجويني. ذلك "الفنان العابر للأزمنة والثقافات". المبدع الذي شغل العالم بفنه وغلّق أبواب عالمه الخاص (العائلة) وكأننا إزاء تلك الثقافة العربية المنكفئة على ذاتها والتي ترفض كل الوساطات للتفاعل مع الآخر والتحرر من قيود الموروث والميتافيزيقا.



يقول كانط "ان الموسيقى هي لغة الانفعالات" وقصة الهادي الجويني هي كل هذا. هي قصة نجاحات وصراعات بدأت منذ الطفولة في حي باب الجديد بالعاصمة أين تنقل ذلك الطفل الصغير بين حفظ الأناشيد الدينية بحي الحجامين والتعليم العصري بالمدرسة الصادقية. رحلة قصيرة بما أن الهادي بن حسين وهذا لقبه الحقيقي اختار الفن وانغمس فيه فردد أغاني عبد الوهاب وأتقن أسرار العزف على العود كما يقول الباحث والشاعر والمؤرخ محمد بوذينة: "من صديقه زين العابدين السبعي، بعد أن كان يعزف الماندلين وتمكن من العزف المتقن على العود المشرقي لينخرط في فرقة الرّقي الوتريّة ثمّ في فرقة الموسيقار العميد محمّد التريكي، عازفا ومرافقا للفنّان علي الرياحي، في أول حفل يحييه سنة 1936، بقصر الجمعيات الثقافية دار الثقافة ابن رشيق حاليّا" ثم لاحقا بالرشيدية ومن أولى أعماله "شيري حبيتك" وهي ديو مع شافية رشدي.



كانت تونس في تلك الحقبة التاريخية نافذة مشرعة على الابداع والجمال ومدرسة تتلاقح فيها ثقافات وأديان متعددة وفي هذا الجو ولدت حكاية حب الهادي الجويني للفنانة اليهودية نينات ابنة الراقصة الشهيرة جولي لا مارسياز...ضحت من أجله بكل شيئ أو لعله فرض عليها التضحية بالشهرة واقعا في نار الغيرة وشراك ثقافته المحافظة.


كوّن الهادي الجويني لنفسه طابعا موسيقيا خاصا طغت عليه نغمات وايقاعات الفلامنكو وهذا الطابع لم يكن في الواقع وليد الصدفة بل متصلا بالفضاء الاجتماعي والثقافي الذي عاش فيه فناننا العظيم. يضيف محمد بوذينة "كان الشاب الجويني يتابع إثر عمله صناعيّا في الصاغة والمجوهرات، السهرات الليلية التي كانت تحييها الجالية الإسبانية والتي تعرف بالسيرينادا في حي المركاض الذي يصل حي باب الجديد بحي رأس الدرب. فلا عجب في أن يفتن بجمال الغانيات من الغجريات في رقصهن الموّقع طرقا بالأقدام على الأرض ورنين الصنوج الموصولة بأصابعهن (كاستنيات). وهكذا كان الجويني، يترّدد على تلك السهرات حتّى تأثر بالفلامنكو الذي تنحدر جذوره من الحضارة العربية الإسلامية لكون زرياب هو الذي أدخله إلى الأندلس".


أغاني الهادي الجويني تصل الروح الأندلسية


عكست أغاني الهادي الجويني هذه الروح الأندلسية العابقة بالحنين والشجن والرومانسية والمتناغمة مع النغمات والطبوع العربية فكانت روائع لا تنسى نذكر من بينها "هاذي غنايةجديدة" و"مكتوب يا مكتوب" و"تبعني نبنيو دنيا جديدة" و"تحت الياسمينة في الليل" و "إلّلي تعدى وفات زعمة يرجع" و"لَامُوني اللي غاروا منّي" وهذه الأغاني ما كان لها أن تولد لولا أشعار جماعة تحت السور مثل كرباكة والدوعاجي والهادي العبيدي ومحمود بورقيبة ومصطفي خريف والعريبي وغيرهم. عمل الهادي الجويني أيضا بالمسرح والسينما تاركا وراءه عندما رحل في 1990 ما يناهز الـ 1000 أغنية والـ 50 أوبيريت. لكن عظمة الفنان أخفت جوانب عديدة في تعامله مع عائلته الصغيرة. البعض اعتبرها قسوة غير مبررة فيما يرى آخرون أنها خوف وحماية للمجال الخاص من أضواء المجال العام.


فيلم "بابا الهادي رجل من وراء المكروفون" يقص خفايا حياة المبدع


كان فيلم "بابا الهادي رجل من وراء المكروفون" لحفيدته كلير بلحسين فرصة ليكتشف التونسيون هذه الجوانب المعتمة ومنها الغيرة الشديدة والغراميات المتعددة وعراكه المتواصل مع الزوجة نينات (عرفت باسم وداد) حتى أنها فكرت في الطلاق والهجرة الى إسرائيل. في الفيلم أيضا تعرية للجانب المحافظ في فنان عرف فنيا بجرأته وتفتحه لكنه رفض أن يكرس هذا التوجه ضمن عائلته. تقول إبنته سامية "كنت لا أغني في الحمام خشية أن يسمع غنائي".


©eninarothe.com جويني وزوجته نينات سنة 1946

يقول محمد بوذينة "لقد ضرب الهادي الجويني بسهم صائب في عدّة مجالات فنيةّ فأبدع في الغناء والتلحين وبرع في العزف ولمع نجمه ممثلا وعازفا ومطربا في عدّة أفلام سينمائية فضلا عن إسهامه في تطوير المسرح الغنائي والسينما إبداعا وإمتاعا وإشعاعا فلا غرو أن يحظى بتكريم جدير بمقامه في مهرجان قرطاج الدولي سنة 1987 لكنّه توفي دون أن يحقق أمنيته وهي أن تتكرّم سيّدة الغناء العربي أم كلثوم بأن تؤدي له موشح أعطفي عدل قوامك رغم تدخل الموسيقار زكريا أحمد ورفيق دربه بيرم التونسي".


رحل الهادي الجويني بعد أن شغل الناس وأثار جدلا حتى داخل عائلته التي تفرقت بين تونس والمنافي لكنه يظل قامة إبداعية راسخة وعنوانا لوساطة فريدة بين ثقافات متعددة أولها الثقافة اليهودية من خلال زوجته نينات ثم الثقافات الاسبانية واليونانية والفرنسية والعربية عبر الفن والنغمات والايقاعات .انها الوساطة في معناها الأصيل أي كحلقة وصل بين ضفتين...بين معنيين...بين تمثلين لعوالم الجمال والحب والتنوع والانفتاح.

ياسين بن سعد

مصادر: محمد بوذينة، 1997، الهادي الجويني، دار بوذينة للنشر، الحمامات، الجمهورية التونسية. الموسوعة التونسية المفتوحة: https://bit.ly/2QHvmyM (تاريخ آخر دخول 12 ديسمبر 2018).


 À l'affiche
Derniers articles