وسائل الإعلام وجدلية تغطية عالم الموسيقى: عودة إلى زيارة عائشة القلالى ذات يوم من أيام نوفمبر 2017
بعد قرابة سنتين نعود للقاء يبقى راسخا، في أيام كانا فيها طلبة في معهد الصحافة وعلوم الإخبار. هي مسامرة علمية و بيداغوجية جمعتنا مع الأدبية والباحثة الدّكتورة وعائشة القلاّلي يوم الخميس 09 نوفمبر 2017 في إطار سلسلة لقاءات مع النقّاد الفنّيين يتمّ تأمينها بصفة دوريّة لفائدة الطّلبة من طرف الأستاذ محمد علي الحيو.
ونحن نتجول بين صفحات إحدى الأثآر البحثية القليلة التي اهتمت بمسالة النقد الموسيقي نتوقف بين جنبات كتاب: "تجربة النقد الموسيقي في تونس" للدكتورة عائشة قلالي. في بداياتها كتبت المقالات الصّحفيّة في العديد من الصّحف، قادها إلى ذلك هوسها الشّديد بالنّقد الموسيقي الذي اختصّت فيه وأضافت إليه الكثير، تلك هي الدّكتورة عائشة القلّالي صاحبة كتاب. هو يعدّ عصارة أفكارها التي ضمّنتها في أطروحة الدكتوراه. الكتاب هو أوّل أثر في بلادنا يلج بجرأة لموضوع النّقد الموسيقي بطريقة علميّة تراوح بين تقنيّات الكتابة الصّحفيّة والإلمام بمضامين وأشكال النّقد الموسيقي.
الكتاب
الكتاب صدر سنة 2017 في طبعة أنيقة عن دار "سوتيميديا" للنّشر والتّوزيع والمخبر الوطني في الثّقافة والتّكنولوجيا الحديثة والتّنمية ومركز تونس للمنشورات الجامعيّة في العلوم الموسيقيّة. وقد ورد هذا الأثر في جزئيين احتوى كلّ واحد منهما على ثلاثة فصول، كلّ واحد منها يتناول عديد المواضيع المتعلّقة بالنّقد الموسيقي والصّحافة المكتوبة، إلى جانب التّعرّض إلى الملامح العامّة للمشهدين الإعلامي والموسيقي من 1956 إلى 2010، وذلك بالاعتماد على عيّنة من الصّحف الحزبيّة هيّ: العمل، الحريّة والرّأي العام.
من يكتب للموسيقى؟ وماذا يكتب تحديدًا؟
من يكتب للموسيقى وماذا يكتب، تلك هي أبرز الإشكاليات التي تتمثّل اليوم أمام كلّ صحفي أراد ولوج مغامرة النّقد الموسيقي. غير أنّ هذه المهمّة تعدّ شبه مستعصية على بعض الصحفيين إذا قرّر دخول هذا الميدان الوعر وهو غير متسلّح بالدّراية والزّاد المعرفي في النّقد الموسيقي الذي أصبح علما يدرّس في الجامعات وله تقاليده وأسسه وثوابته. إذ لا يجب الاكتفاء في كتابة المقال الصّحفي بوصف ما تراه العين المجرّة ونقله إلى المتلقّي بأمانة، بل مع ذلك يجب الخوص في عمق المادّة المقدّمة ولا يمرّ عليها كما تقول الدكتورة عائشة القلّالي : "مرور الكرام". لأنّ خصوصيّة المادّة الموسيقيّة تدعو كاتب المقال إلى اختيار المنهج الذي يجب اعتماده في الكتابة حتى لا يتم الوقوع في السّطحيّة والعشوائيّة. وهنا لا بدّ للصّحفي أن يكون متفتّحا على العلوم الأخرى وينجح في إيجاد ذاك الرّابط الدّقيق بين الاختصاص في الموسيقى وبقيّة الاختصاصات الأخرى.
علم الموسيقى من زاوية الإعلام و الاتصال
هنا يعدّ النّقد الموسيقي من زاوية علوم الإعلام والاتّصال مغامرة في حدّ ذاتها تحوم حولها عديد المخاطر. إذ أنّ هذا العلم ولئن اختصّ بموضوعه الذي يعنى بمعالجة الظّواهر الاتّصاليّة إلّا أنّ مناهجه تتفرّع لتشمل بقيّة العلوم الأخرى لاسيّما علم الاجتماع الذي تتغذّى منه حتى النّخاع والذي تعتبر فيه عمليّة التّعمّق في معرفة الممارسات الاجتماعيّة والثّقافيّة لمجتمع ما ببعديها المادّي والمعنوي ضرورة لا مفرّ منها. فكيف للصّحفي أن يحيط بكلّ تلك الجوانب في مقاله وهو جاهل بتلك الممارسات إلى جانب جهله بمضامين وأشكال النّقد الموسيقي. فالصّحافة كما تقول الدّكتورة القلّالي هي: "وليدة عصرها وتؤثّر وتتأثر بالمجتمع"، فكيف تعمل إذن على شدّ انتباه القارئ لو لم يكن هناك إلمام بتلك المقتضيات؟
فتلك هي مهمّة الصّحفي في تأثيثه للمقال النّقدي وفق شكل هرمي يراوح بين تقنيّات تقديم الخبر بأسلوب صحفي ونفس موسيقي في آن واحد يعكس حسّه الإبداعي والفنّي. تقول الباحثة عائشة أنها كشفت عن نوعية العلاقة التي تربط الفن بالصحافة. فالمقالات في الصحافة الثقافية تبرز علاقة التكامل بين الحقلين إذ أن الفنان و الصحفي يكونان العناصر الأساسية في المقال الصحفي. فكلاهما يؤدّي دور المثقف وكلاهما يتصارع لإبراز تموقعات الفن في المجتمع.
هنا وجب التّمييز بين المثقّف العادّي الذي تعوزه الدّراية والخبرة على الغوص في تحليل الظّاهرة وبين المثقّف العضوي حسب التعبير الغرامشي الذي لا يجب أن يكتفي بما شاهده بل يتأثّر ويؤثّر بإضافة عناصر جديدة إلى الحقل الثّقافي ممّا يساهم في إثراءه، شرط ألّا يكتفي بالعيش في برجه العاجّي فتكون له نظرة نخبويّة لا يفقهها عامّة النّاس. فهو بذلك يكون قد حكم على نفسه بالعزلة داخل مجرّة خارجيّة أو العيش خارج السّرب. والحال أنّنا أصبحنا اليوم نتحدّث عن "دمقرطة" الثّقافة. لا يتحقق ذلك سوى من خلال الاحتكاك بالعامّة وتبسيط المعلومة والغوص في تجارب النّاس لسبر أغوار الماضي وبناء الحاضر واستشراف المستقبل.
الفنان و الصحفي يتجاوزان الإديولوجيات ويغلبان الجانب الانطباعي
فيما يتعلق مثلا بالأغنية البديلة أكدت الباحثة عدم وجود أغنية بديلة من الناحية الأكاديمية و تحديدًا في علوم الموسيقى. إذ إن كل الأنماط مقبولة حسب تقديرها. إذ حسب بحثها فإنّ الأغنية الملتزمة وكما تدلّ عليه الصّفة التي ألحقت بها تعني الالتزام بقضايا دون غيرها، وانتهاج جنس موسيقيّ دون غيره والتّخصّص فيه. هنا أوردت الدّكتورة القلّالي مثال الفنّان زياد غرسة الذي اختصّ في أداء المألوف التّونسي والموشّحات الأندلسيّة أو اختصاص الفنّان صباح فخري في أداء الخدود الحلبيّة وغيرهما. فهو إذن التزام لتحقيق مسيرة فنية أكثر منه التزام سياسي. هذا الأخير في معظم الأحيان يأثر الآن وهنا لكنه لا يبقى بعد مرور الزمن.
ومن الناحية الصحفية بينت انه توجد كثرة في المادة الإعلامية الثقافية، والأسلوب الانطباعي في النقد هو الغالب في الصحف. ولتجاوز الحكم الإديولوجي للفنان على فنه أوالموقف الأخلاقوي للصحفي على عمل الفنان أكدت القلالي على أهمية إيجاد وبعث صحف مختصة في النقد في المجال الموسيقي ولا سيما التركيز على ضرورة التكوين الجامعي في هذا المجال.
ومن جانب آخر، اعتبرت الباحثة أن الفيديو كليب هو تجني على الموسيقى حيث سلبها دور محاكاة الواقع والتعبير عن وجود إنتاج موسيقي وأضحى مروج بدرجة كبرى للرسالة التجارية. فظاهرة الفيديو كليب غيبت الجانب الموسيقى بشدة. و فسرت القلالي أنه تم تشييئ الإنتاج الموسيقى حيث بات المتلقي يركز على أشياء أخرى دون الالتفات للجانب الموسيقى. فحتى الصحفيين أصبحوا يتحدثون عن مظهر الفنان و أداءه الركحي معتمدين على المشاعر و الأحاسيس مغضين النظر عن الجانب الموسيقى من كلمات و ألحان و مقامات و غيرها.
بعض نقائص هذا البحث الرائد
من ناحية المقاربة لم يستطع الكتاب من تجريد مسألة الفن والنقد الموسيقي أي إن هذه المحاولة البحثية تغوص بإفراط في المسألة السياسية وتجعل منها ولوحدها أساس فقدان معنى الخلق و الابتكار في عالم الفن و في عالم الصحافة. وهنا فسّرت الدّكتورة التّداخل الكبير للظّواهر الثّقافية مع الظّواهر الاجتماعيّة والسّياسيّة وحتّى الاقتصاديّة، باعتبار أنّ العلاقة بين المجال السّياسي والحقل الثّقافي الابداعي متينة. وأكدت أن كلّ حقل يؤثّر في الآخر بدرجات متفاوتة، فالتّقلّبات السّياسيّة لها دون أدنى شكّ وقعها الشّديد على الحركات الثّقافيّة الابداعيّة.
وختامًا يمكننا أن نقول أن الفن يمثل مادة الصِّحافة والصحافة تحتاج إلى أدوات فاعلة لتنقله ويتفاعل معه الجمهور الموجهة إليه. إذن يمكن أن نستنتج أن النقد الموسيقي في تونس يعاني من الشح و اقتصر فقط على المشاعر و الأحاسيس دون تعمق و هذا ما يؤثر على المنتوج الموسيقي و الذي بدوره ينعكس سلبا على ذوق المتلقي، فالناقد الموسيقي يمثل وسيطا بين الفنان و المتلقي وله دور توعوي بارز.
إيمان عبد الستار وسيّدة التّابعي وعواطف السويدي وإيهاب الشايبي