الصحافة الثقافية في اليمن: بين ضيق المساحة الورقية وسرعة التحولات الرقمية
تقترب الصحافة الثقافية في الدول العربية من حالة الضمور بل أن المجال الصحف ككل يشهد تحولات جوهريةٌ بفعل متغيرٌات عديدة أبرزها التطور التكنولوجي والمعلوماتي الذي يشهده العالم. ورغم أن التحديات التي تواجه الصحافة الثقافية تواجه أيضا بقيةٌ الأنواع الصحفيةٌ إلا أن خصوصيةٌ الصحافة الثقافية من حيث نخبويتها على مستوى الصحف والمحتوى وحتى الجمهور جعلها تسبق الجميع إلى مخاض المعاناة والمقاومة للبقاء.
في اليمن، حال الصحافة الثقافيةٌ أكثر معاناة؛ رغم أن لها بقعا مضيئة في بعض الفترات والمحطات. ففي البلد الذي يعيش دوامة من الصراعات تدفع الصحافة ضريبة باهظة في خضمها. أمّا الصحافة الثقافيةٌ فهي تواجه تحديات إضافيةٌ لتلك التي تواجه الصحافة عموما.ً
هشاشة وضعية المثقف اليمني
هناك وجود لحالة من التحدي الإبداعي في الفعل الثقافي الفردي حيث ولدت في هذه الظروف بعيدٌا عن اهتمام الصحافة عشرات الروايات وعشرات المجموعات الشعرية. لكن من الضروري الإشارة إلى أن المثقف اليمني لا يحظى بالدعم. فالمجال الثقافي هامشي وهناك نظرة دونية من بعض الجهات الرسميةٌ للثقافة في اليمن سببت ضمورا في جميع مفاصل الفعل الثقافي وهو ما ينعكس بالضرورة سلبا على الصحافة الثقافية. حيثٌ لم يصل اليمن إلى مرحلة سلعنة الثقافة وتنميتها فما رصد لها من ميزانيات يعد أقل مقارنة ببقية المجالات فالمثقف اليمني كما يقول وكيل وزارة الثقافة الأسبق عبد الهادي العزعزي: "وٌلد غريبٌا و يعيش غريبٌا و يمٌوت غريبٌا، ولا عزاء للغرباء".
انتكاسة الصحافة الثقافية الورقية
بعد أن كان القارئ اليمني يزور كشك الصحف والمجلات يجد أمامه "مجلة الثقافة" و"الملحق الثقافي الأسبوعي" من "صحيفة الثورة" والإصدار الشهري من الجريدٌة نفسها "كتاب في جريدة" و"الصحيفة الثقافية الأسبوعيةٌ" الصادرة عن مؤسسة الجمهوريةٌ للصحافة و"مجلة الحكمة" الصادرة عن اتحاد الأدباء والكتاب اليمنيين ومجلة "دمون" الصادرة عن بيتٌ الشعر ومجلة "غيمان" ...الخ. اليوم لا يوجد أي إصدار ثقافي باستثناء صفحات فردية في الصحف اليوميةٌ والتي لا تتجاوز 3 صحف وهو ما يؤكد الانتكاسة التي تعيشٌها ليسٌ فقط الصحافة الثقافيةٌ بل الصحافة اليمنيةٌ عموما.
الصحافة أحد رهانات الصراع
مع تصاعد العنف وجماعاته واشتعال حرب شاملة ومفتوحة في البلاد كانت الحريات الصحفية هدفا بارزا ورئيسا للمتصارعينٌ حيث أغلقت القنوات والإذاعات والصحف وقصفت مكاتب إعلاميةٌ واعتقل واختطف وعُذب وقتل صحفيوٌن مما جعل اليمن من أكثر البلدان التي تشهد انتهاكات صحفيةٌ وفقا لتقاريرٌ المنظمات الدوليةٌ وعلى رأسها منظمة مراسلون بلا حدود. إذاً لم تبقى سوى وسائل الإعلام والصحف التي تمثل جهازا دعائيا لأطراف الحرب وكانت الصحافة الثقافيةٌ المتضرر الأكبر حيثٌ توقفت جميعٌ الإصدارات الخاصة بها. فهي ليست أولوية في الحرب من وجهة نظر المتحاربين.
هذا هو المشهد المؤقت بفعل الحرب. لكن دعونا نتناول الصحافة الثقافيةٌ في اليمن قبل الحرب سنجدها تتعامل مع كتابات المبدعين بنوع من الاستحياء في استيعاب أفكارهم ورؤاهم في ظل هيمنة السياسي على الثقافي وهو ما انعكس على زيادة المحاذيرٌ الكثيرة والمتنوعة. هذه المحاذيرٌ لا ترتبط فقط بالسياسة بل بعلاقة بالفكر المهيمن أيضا على السلطة السياسيةٌ والدينية والذي لا يستوعب أن الصحافة الثقافيةٌ تقدم قضايا فنية وفلسفية وفكريةٌ وجماليةٌ مجردة في أغلبها.
لتجاوز المساحة الضيقة المتاحة للفن
تواجه الصحافة الثقافية في اليمن المساحة الضيقة المتاحة للمجال الفني الدسم على مستوى الفضائيات والإذاعات التي ترى أن برنامجا أسبوعيا بمستوى إنتاج عادي يعني اهتماما كافيا بالمجال الثقافي بمختلف تفاصليه الأدبية والفنية. كما أن هناك قصورا كبيرا في تغطية الفعل الثقافي وتحويله إلى مادة محببة للقارئ بعيدا عن الجمود الذي أصبح واضحا في معظم مساقاته، بسبب أن غالبية القائمين على الملاحق والبرامج الثقافية أدباء ومسكونين بالهم الثقافي لكنهم ليسوا صحفيين محترفين. وبالتالي فقد انصرف غالب اهتماماتهم إلى نشر النصوص الأدبية وفي ذلك خروج عن وظيفة الصحافة الثقافية المعنية بمن يقف خلف النص وبالمتابعة الخبرية للفعل الثقافي.
هل يجب أن يكون الصحفي الثقافي من هذا المنظور بمستوى النخبة؟ هذه النقطة بالذات أثارت جدلاً حول من هو الصحفي الثقافي الملائم؟ هل يكون متخصصا في الصحافة و يتم تأهيلٌه بعد ذلك ثقافيا ؟ أم أنه مثقف يتطلب تأهيلٌه صحفيا؟ً والحال أنه وقلما تجد صحفيا متخصصا ضليعا له علاقة عضويةٌ بالمجال الثقافي.
زحف التحولات الرقمية
ذاك مقام الصحافة الثقافية الورقية في اليمن فكيف وضعها إلكترونيا بمعنى هل واكبت تحول عالم الصحافة نحو الرقمنة؟ هل ظهرت مواقع ثقافيةٌ متخصصة ؟ الإجابة على السؤال لن تكون صعبة فما عليك سوى تصفح المواقع اليمنية أو البحث عن مواقع يمنية تختص بالثقافة، إذا فعلت لا تندهش أو تصطدم إن لم تجد حتى موقع واحد متخصص بالثقافة، اعلم أنها إجابة مرة لن يستوعبها أحد لكن هذا هو الواقع. لا يعني ذلك أنه لا يوجد أي محتوى رقمي مرتبط بالصحافة الثقافية اليمنية لكنه محدود على شكل أقسام في مواقع إلكترونية أو إخبارية تهتم بأخبار فعاليات شكلية أو مواد منسوخة من مواقع عربية. إذا أ ين هي الصحافة الثقافية ؟ فالأدباء والشعراء والمثقفون يكتفون بنشر إنتاجهم أو أخبار عن فعالياتهم في صفحاتهم على مواقع التواصل وفي خطوة متقدمة قد تجد عددا من المجموعات في الفيسبوك او الواتس آب التي تجمع معشر المثقفين والأدباء والشعراء والفنانين وهم يحققون نسب قراءة تزيد عن مئة ضعف لما تحققه الطباعة الورقية، ومن نتيجة ذلك أن الأديب يخرج إلى النور وهو في سن مبكرة. سؤال جوهري يبرز هنا: ما هو العائق أمام رقمنة الصحافة الثقافيةٌ على الأقل مواكبة لبقية التخصصات مثل السياسة الرياضة؟ هناك عديدٌ الأسباب أولاً :عدم وجود دعم لمواقع ثقافية متخصصة سواء من قبل الجهات الحكومية أو المجتمع المدني أو القطاع الخاص لأن النظرة للثقافة لا زالت قاصرة جداً. ثانيا : معظم الصحفيين تقليديون تقتصر عملية النشر عندهم على تحويل مادة مكتوبة إلى صفحات في المجلة المطبوعة، دون ربطها بالوسائط الأخرى من مرئية ومسموعة في المواقع الإلكترونية وصفحات مواقع التواصل الاجتماع المدونة والمصورة. ثالثا: عدم وجود جدوى استثمارية في الصحافة الثقافية الإلكترونية فالحصول على عائدات إشهاريةٌ أمر صعب إذا ارتبط بالثقافة. رابعا:ً الاكتفاء فيما يبدو بالصفحات الشخصية في مواقع التواصل بالنسبة لمنسوب القطاع الثقافي. خامسا: محدوديةٌ النشاط الثقافي أصلا فالبلاد أصبحت بلا سينما على سبيل الذكر لا الحصر باستثناء بعض العروض النادرة من قبل بعض المؤسسات حيث أغلقت كافة دور السينما في عديد المحافظات لأسباب دينية واجتماعية قاصرة. والأمر نفسه ينطبق على المسرح وبالتأكيد أن الصحافة الثقافية لها علاقة بالإنتاج الأدب والفن والمسرح والسينمائي تزدهر بازدهاره وتنحسر بانحساره. سادسا : ضعف الاهتمام الأكاديمي بالصحافة الثقافية حيث لم تنجز حتى الآن سوى أطروحة دكتوراه يتيمة وهو دليل كافٍ لإظهارعدم الاهتمام من قبل الباحثين بالصحافة الثقافية وكذلك الكشف عن عدم وجود توجيه أكاديمي من قبل الجامعات ومراكز البحث. والسببان الأخيران يقفان خلف تواضع الصحافة الثقافية في اليمن بشكل عام سواء على المستوى الورقي أو الرقمي.
إزاء هذه الوضعية الوهنة فإن إنقاذ الصحافة الثقافية في اليمن من وجهة نظري تتطلب منظومة متكاملة تعمل بالتوازي بين تنشيط الحقل الثقافي واستغلال المواهب والقدرات الثقافية التي يمتلكها اليمن خصوصا التي لمع نجمها خارج البلاد وعمل استراتيجية تطور قدرات الصحفيين المتخصصين في الشأن الثقافي وتؤسس لصحافة ثقافية رقمية تعتمد على التمويل الاستثماري وتواكب تحولات العالم. وقبل ذلك وضع الثقافة في مقامها وسياقها الطبيعي وتوعية الناس أنها ليست كمالية بل ضرورة ومفتاح لأي تقدم حضاري لأي شعب في العالم.
بشير طاهر الضرعي