بلطي فارس الرّاب : مسيرة إثبات أغاني متمردة
أغنية "يا ليلي" التي أدّاها مغنّي الرّاب بلطي بالمشاركة مع الطفل حمّودة أغنية تصدّرت مواقع التواصل الاجتماعي لتتجاوز نسبة متابعتها على اليوتيوب إلى حد هذه الساعة ستين مليونا في غضون شهر واحد من إصدارها في أواخر أكتوبر 2017، الأمر الذي شكّل استثناءً لما تحويه الأغنية من حساسية وعمق على مستوى معالجة قضايا المجتمع. لقد أضحت هذه الأغنية تشكّل ظاهرة فنيّة تغيّرت من خلالها مفاهيم مانعة وقامعة لترويج مثل هذا الفن في مجتمعاتنا العربية. في وقت من الأوقات، "أغاني تسويقية ذات كلمات سوقيّة غير ملتزمة لا على مستوى الشكل ولا على مستوى المضمون" كانت هي النعوت الملتصقة بأغنية الرٌاب.
أغنية "يا ليلي" على عتبة العالميّة
امتازت أغنية "يا ليلي" بطرح قضايا اجتماعية. كانت كلمات هذه الأغنية باللهجة العاميّة التونسية في شيء من التواتر الإيقاعي. إذ تجسّدت الحرفيّة في مدى التحكم في نبضات الموسيقى وتناغمها مع الكلمات التي تداول على تقديمها كلّ من بلطي الذي استعرض كلماته في نسق سريع لا يلتزم بالقوافي والإيقاعات وهو ما يعبر عنه في فن الهيب هوب ب"الأسلوب الحر" المتأثّر باليومي بما يعتريه من التصاق بواقع عربي مرير يقتل طموح الشباب الحالم.
كما شكّلت إطلالة الطّفل حمّودة إضافة فريدة من نوعها. صوت طفل متمرس ذو نبرة فريدة جعل الأغنية تخرج عن النّسق المألوف وتعرّج بأسلوب طريف عن قضيّة الطّفولة التي تهدّدها أشكال الانحرافات في الشّارع عقب المشاكل الزّوجيّة التي تؤول إلى الطّلاق. ردّد الفنان حمودة ما يلي :
يا ليلي، و يا ليلة واش باش نشكيلك يمّا و قالولي لا لا صغير و في قلبي غمّة نحب نطير ونطير الفوق يحبّو يقصولي جناحي وليدك راني مخنوق ومنك طالب سماحي
تبرز قوة الكلمة التي عبّرت عن الرّفض والتّمرّد عن الواقع المعيش بأسلوب مباشر وجريء يقطع مع الرومانسيات الرّتيبة. نص غرضه تشبيب الموسيقى وذلك بتوسّل كلمات مقتبسة من الأحياء الشّعبيّة. فالراب أو كما يحلو للبعض تسميته أيضا فن المقاومة، فن الشعب أو فن الثَّبات. هو فن ولد من رحم الأحياء الشعبية من رحم الألم و المعاناة و الإحساس بالمهانة. هو الجنس الذي خرج عن المألوف و السائد و سعى إلى نقل الحقيقة. هذا الواقع نقله بلطي عبر الكلمات التالية : ريوس الرجالة مايلة رزنت بالتخمام وبالشيخة المخاخ مبايلة ولاد الحومة الشواطن مقايلة الشر في العينين، بالخير ماهيش مستفايلة يحبّو يسوقونا كيف الزايلة ومربط في زريبة وخطوة الساقين مكايلة يحبّوك برّي ما عندكشي عايلة نعيشو في سيستام حكمه ولاد المتحايلة ياه يحبّوك غايب عالوجود ساكت على حقك وراضي بلّي يحبّوا موجود يمّا تجري وماكش خالط على القوت اش خلّى ولاد الحومة قاطع قاطع مالحدود ياه صيد وفي قفصك مربوط والضبع مصيد وزيد كلاك عشك يا مّا يحبوك قاعد في زنقة مرفود والمستقبل تشوف فيه متعدّي بحداك
شكّلت أغنية "يا ليلي" حدثا طغى على أغنية "حوماني" وذلك يعود بالأساس إلى قوة الإخراج حيث قدّم المخرج الصّورة في جودة عالية استعرض خلالها مشاهد تمثيلية جسّدها كل من بلطي وحمودة ليكون العرض الفرجوي متكاملًا من الصّوت مترجمًا إلى الصّورة.
بلطي يثبت أنه ليس بسحابة عابرة
أظهر الفنان بلطي ذكائه في كتابة كلمات الأغنية وفي اختياره في كل مرّة شريكًا له في الغناء ليظهر الأسلوب المتفرّد والمتناغم في ثوب متجدد جعل الجمهور المتذوّق ينتظر إنتاجاته على أحر من الجمر حتى يكتشف وجها جديدًا ومختلفًا من العروض الفنّية التي يقدّمها. الذي بات يبعث أسئلة حارقة في صفوف المنشغلين بالشّأن الثقافي والموسيقي. هو فنان الرّاب الأشهر على مر تاريخ تونس فقد قدم العديد و العديد من الأغنيات التي رسخت و ظلت في البال. يمكن أن نعرج هنا على الصدى الذي لاقته أغنيته "جاي من الريف إلى العاصمة". فهذه الأغنية بالذات قد أزاحت الستار تمامًا عن النظرة الدونية التي يقابل بها سكان العاصمة زوار باقي الجهات...هي نَظْرَة احتقار و تصغير.
كما أن أغنيته "ولالا" سلطت الضوء على أحلام الشباب بالهجرة و مغادرة البلاد بعد فقدانهم الأمل في أوطانهم. يعتبر متابعو بلطي أن : "موسيقى الرّاب فن فرض ذاته بأبسط الأساليب وأن فناّنا مثل بلطي صنع درب النّجوميّة لتنطلق رحلته إلى العالميّة لما تحمله أغانيه من عمق وانخراط لصيق بالمجتمع حرّك المواضيع المسكوت عنها وحفر في قضايا المحاذير ودغدغة القوالب الجاهزة التي لا تبدي أي تجديدا أو انفتاحًا ".
مقداد السّهيلي نقيب الفنانين يستهجن الرّاب كما يقدم في تونس
غير أنّ هذا النّوع الموسيقي لاقى انتقادات ورفضا من قبل نقابة الفنانين التي يمثّلها الفنان مقداد السّهيلي. خلال تظاهرة ثقافيّة قدّمها فريق ورشة الإعلام الثقافي بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار يوم التاسع والعشرين من شهر نوفمبر ألفين وسبعة عشر أنّ ما يقدّمه مغني الرّاب لا يرقي إلى منزلة الفنّ. إن الفن حسب مقداد السّهيلي هو تَرْجَمَة إلى كل ما هو مهذب وراق وجميل على عكس ما تقدّمه هذه "الطّائفة" الّتي جعلت قيمة الفنّ تنحدر وتتقهقر شيئا فشيئا.
يعتبر السّهيلي أن الأثر الموسيقي لقيمته يستدعي تحضيرات ودراسة معمّقة في انتقاء الكلمات وتنسيقها مع الألحان بحيث لا تكون ارتجاليّة أو مسقطة وليس لها أي غرض أو رسالة. يؤكد مقداد في هذا السياق أنّ "التّيار الفنيّ المتواتر هذه الأيام شأنه شان الوجبات السّريعة لا طعم ولا نفع ولا خلودَا".
تظاهرة ثقافيّة قدّمها فريق ورشة الإعلام الثقافي بمعهد الصحافة وعلوم الإخبار
الرّاب يهدّد الفن الملتزم؟
فيما أكّدت الفنّانة وأستاذة الموسيقى شهرزاد هلال ضرورة التّفطّن إلى موجات العولمة وغزوها الفن التونسي والتّراث الملتزم مشيرة إلى جدّيّة المسألة وخطورتها. إذ أبدت حرقتها معتبرة أن الفنّ الملتزم بات مهددًا بالاندثار وأنّ التّعليم الأكاديمي الموسيقي أضحى غير مرغوب فيه في ظلّ تداعيات موجات الفن الحر أو" فنّ الهواة" كما عبّرت عنه. هذه النوعية التي اكتسحت الأسواق التونسية. ساهم هذا، حسب تحليل الأستاذة، في تردّي "الذّوق العام" للمتقبّل في ظلّ غياب وحدات مختصّة تعالج القضيّة الموسيقيّة معالجة عقلانيّة فنّيّة تسمو بالأذواق. ذكرت الفنّانة أنها طالمَا تتعمّد حجب هذا النّوع من الأغاني عن ابنتها حتّى لا يأثر على حسّها الذّوقي والأخلاقي خاصّة وأنّ هذا النّوع من الفنّ ولبزوغه من الأحياء القصديريّة الأمريكيّة هو مروجًا لأوجه مختلفة من العنف والتمرد.
فن تعبيري يكسر الحواجز ويغيّر المفاهيم
يبدو أن هذا النوع الموسيقي رغم انتقادات أهل الاختصاص من أكادميين وموسيقيين ونقابيين جعلت فناني الرّاب ومن بينهم بلطي ينتقلون من التهميش إلى إثبات الكينونة. فقد كسب بلطي قاعدة جماهيريّة عريضة وممتدّة في كامل أنحاء العالم. لقد افتك الرّاب مكانته في المشهد الموسيقي ليصير موضة العصر ويكون بذلك الشّوكة الأشدّ إيلاما في خاصرة أي تجاذبات تهدد حرّية التعبير. إن هذا الجنس الموسيقي قد ساهم بطريقة أو بأخرى في تنمية الوعي و نشر فكرة المقاومة ضد نظام بن علي.
فهو لطالما نقد الأوضاع الاجتماعية كالفقر و البطالة وأحلام الشباب في العمل و الهجرة نحو أوروبا، الحلم الأزلي. كما أنه نقد إضافة إلى ذلك الأوضاع السياسية كهيمنة السلطة و قمعها للمعارضة. و إن هذه النزعة النقدية بالذات للرّاب زادت في شعبيته خصوصا إثر عمليات الاعتقال الواسعة التي شنها النظام السابق ضد فناني هذه الموسيقى و نخص بالذكر هنا الجنرال. وبعد ثورة الرابع عشر من جانفي سنة احد عشر وألفين وجد الرّاب الأرضية مناسبة ليزيد في التمدد و الانتشار و يصبح بذلك الجنس الأول و الأفضل و الأكثر استماعًا من جميع الفئات العمرية. فقد توالت الإنتاجات و كثرت و ازداد عدد المنتسبين إليه.
إن الرّاب اليوم هو الجنس الموسيقي الأول الذي استطاع أن يوحد كافة الفئات العمرية حوله و يحشد دعم الجميع. هو بلا شك يستحق أن يكون فنا و أن يدرج ضمن قائمة الفنون. بلطي في هذا السياق أسس لنفسه مكانة غيّرت جميع الموازيين ليصبح فن الرّاب فنا قائمًا بذاته ومعترفًا به في تونس وفي العالم العربي.
أسماء الطرابلسي وفاتن الرزقي