"سيدي بو سعيد عروس المدائن العربيّة"
إذا رغبت في مشاهدة العراقة فاذهب إلى المدينة العتيقة بتونس العاصمة"، هكذا بدأ الشّيخ محمد كلامه معنا وهو يجلس القرفصاء على صخرة تقادم عليها الزّمن حتى تآكلت، ثم واصل:"لكن إذا رغبت في الغوص داخل تفاصيل هذه العراقة وفي أن تعيشها وتلامسها بين النّاس فاذهب إلى سيدي بو سعيد".
هنا عراقة المدينة التي صنّفت ضمن أقدم القرى العربيّة تقودك إلى ماضي البلاد عبر شوارعها المبلّطة بحجارة ملساء يغلب عليها الطّابع البدويّ وجدرانها القديمة، حيث دهشة الزائر لا تتوقّف عند نقطة واحدة، فكلّ مشهد له رونقه الخاص.
سيدي بو سعيد مرتع للفنّ والجمال...
نساء تغطّين رؤوسهنّ بقطعة قماش حريريّة تسمى "السّفساري" وتتركن جزءً من أرجلهنّ في العراء، ربّما رغبة في إظهار خلخال الذّهب أو الفضّة الذي يطوّق سيقانهنّ مثل إكليل من الورد... هي صور لا تغيب عن لوحات المقاهي والحوانيت المنتثرة في شوارع المدينة الصغيرة، حتّى إنّ الزّائر لهذه القرية يكاد يرى صور النّسوة وهنّ تمشين بغنج و تحملن قفة مصنوعة من "السمار" نقش عليها اسم المدينة أو صورة لنخل الجنوب أو لجِمال الصحراء، فتجتمع صور البادية والمدينة في قالب من التّناقض الفتّان.
وتنضاف إلى الصور الفنّيّة مشاهد الشّروق والغروب التي تزيد جمال الشوارع حدّة وإغراء، فتعزف المدينة سمفونيّة من التّناسق قّلما تجد له مثيلًا.
السيّدة فاطمة وهي امرأة جزائرية، كانت تجلس على طرف مرتفع في ضاحية "سيدي بو" كما يحلو للبعض تسميتها، تصوّر بكامرتها مشهد الورد القرمزيّ المنسدل على جدار منزل عتيق. قالت لنا إنّها "تحاول التقاط أكبر عدد ممكن من الصّور حتى تُشبع عينيها بهذا الجمال". وتضيف:"الصّور لا يمكنها أن تنقل الجمال الطبيعيّ لهذه المدينة وإنّما يبقى ما في الصور مجرّد محاكاة ومحاولة لنقل صورة عن روعة القرية".
ويقول زوجها:"في الجزائر لدينا أماكن كثيرة جميلة وربّما هي أكثر روعة ممّا نجده في تونس، لكن في سيدي بوسعيد نكتشف جمالًا من نوع خاص … جمال التّمازج بين البناء التقليديّ والمشهد الطبيعيّ... أبوابها الزرق وبياض جدرانها يوحيان لك بالسّلام الأبديّ، هي باختصار مدينة نقيّة وصافية ". هنا تشعر وكأنّ الربّ يمدّ يده إلى الإنسان، فيجتمع الخلق الإلهيّ بالإبداع البشريّ، فتتشكّل اللوحة صافية مغرية لا تلطّخها يد العصرنة.
تصوير وتصميم خلود لعليات
مدينة تجتمع فيها المعالم
في سيدي بوسعيد لولا خريطة تونس التي تقتاد النّاس إليها، لما عرف الزّائر لهذه القرية إذا كان إزاء مدينة أندلسيّة أو مغربيّة أو تركيّة أو تونسيّة … ففي "القهوة العالية" أو "مقهى الحصائر" كما يسمّيها أهالي المنطقة، تجد "الدكّانة" التونسيّة بمناضدها التقليديّة القديمة، يكسوها الأخضر والأحمر في خطوط متجانسة كأنّما صنعتها أيدي رسّام شهير.
"مدينة متجدّدة بديكور تقليديّ نعيش بها على ذكرى أجدادنا"، هكذا وصفها "عمر الكعبي" أصيل المنطقة، هي عالم من الأبنية البيضاء والزّرقاء تتوسّطه باقات من الورود والخضرة النّاعمة.
وفي أنهج المدينة ترى الكراسي الممتدّة على طول الشّوارع، كأنّما تفتح أحضانها لاستقبال الزّوار بشكل يومي فلا تعترف بفصل صيفي أو شتوي، تحوم حولها رائحة القهوة التركيّة والشّيشة التي اختلطت نكهاتها بين خوخ وتفاح عنب ... وإذا ما توغّلت أكثر في أروقة المدينة، تجذبك رائحة البَخُور المغربيّ لتتوه بك بين ثنايا القرية فتحلم بعروش السّلاطين وبشهرزاد الأميرة، وربّما يحملك الحلم بعيدًا لتعيش داخل قصصها وأساطيرها الطويلة ...
وما يزيدك نشوة هو أن ترى الأندلس حاضرة في جسم المدينة، بمعمارها التقليديّ المسرف في فخامته والمترف في جماله. ويشهد قصر "النّجمة الزهراء" على جمال الهندسة الشرقية في هذه القرية، وقد كان للبارون رودولف دي ارلنجر الرّسام الانجليزي وراء اعتماد مرسوم ملكي أصدره آلباي سنة 1915 يحمي المدينة كما كان وراء اعتماد ألونين الأبيض والأزرق…
سيدي بو سعيد … سيّدة المعمار الأولى
"أتيت هنا خصيصا لأرسم ثنايا هذه المدينة الساحرة، فتفاصيل بنيانها هي ما يشد قلم الرّصاص إليها". هكذا حدّثنا جعفر الفلّاح، طالب في كلّية الهندسة، وهو يجلس متربّعا مستندا إلى حائط كرويّ ... يغمض جعفر عينا ويترك أخرى، ثم يرفع إصبعه ليقيس مدى انحناءة القوس ليرسمه على الورق. ثم يكمل: "ليس القلم فقط هو ما يحفظ تفاصيل سيدي بوسعيد، وإنّما ذاكرتي أيضا تخزن من شوارعها الكثير، فأحيانا لا أضطر إلى القدوم هنا لأحاكي مشهدًا من أنهجها، وإنّما أستدعي في أحيان كثيرة ما أحفظه عنها في ذاكرتي من كثرة قدومي إليها... حقّا سيدي بو سعيد جنّة الله على الأرض".
لطالما ألهم هذا المعمار ريشة الرّسامين وألهب قريحة الشعراء والفنانين، خصوصا بألوان الجدران والنوافذ، يبدو أنّ “أبو سعيد الباجي”، مؤسّس المدينة، اختار زرقة أبوابها كتتويج لصفاء بحرها الذي تسمح لك الهضبة العالية برؤيته من كلّ صوب... ولهذه الأبواب والنّوافذ شكل مميّز خاصة في انحناء أسياجها الحديدية وتفرّد طريقة الصّنع في خشبها، حتّى صارت هذه النّوافذ تسمّى ب"نوافذ سيدي بو سعيد" بلونها الذي يحاكي زرقة البحر. فمَا من متجر أو دار أو فندق أو غيره إلّا وكان غطاؤه لون السّماء و صفاء البياض… وهناك فوق صفوف بعض الأبنية تتربع قباب ذات طراز إسباني- مغربيّ … للحظة يظن الزّائر أنّه إزاء مدينة "أويا" اليونانيّة، إلى حين يطالعه مسجد "الزاوية" بصومعته الشّامخة، فيذكّره أنّه وسط مدينة عربيّة.
وما يزيد معمار المدينة الشّابة إشراقا، هو مولودها الذي تحتضنه في قاعها، مرفأ المارينا، حيث جمال المساحات الخضراء وزرقة المياه. لكن "المارينا" لا تعطي سحرها بسهولة، وإنّما تلعب مع الزّائر دور المعشوقة المتمنّعة، فلا تصل إلّا من تكبّد عناء النّزول إليها عبر ممرّ ذو ألف درجة، ليصل به في النّهاية إلى باقة من المراكب المنتشرة على سطح الميناء، كموكب يحتفل بميلاده، أو كامرأة تجدّد تاريخ عرسها مع الفينيقيين.
في سيدي بوسعيد يسرقك الوقت بين ثناياها، ولا يزال زوّارها يتوافدون عليها، ومنهم من اتّخذها مسكنا صيفيّا يؤوي فيه راحة باله. المدينة لا تبخل عليهم بسحرها المتجدّد، كأنّها الكتاب المفتوح الذي لا تنتهي ورقاته، أو قصة مفتوحة تترك لقارئها فسحة نسج مستقبلها كلّ على طريقته. هذه القرية هي حقا كما تغزّل بها "باتريك برييال" في أغنيته الشّهيرة " au café des délices" … هي باختصار كشجرة "البونزاي" خضراء لا تشيخ.
رحاب حوات