مسرحية صمت الكويتونيسولبنانية: عزف على أوتار ذاكرة النسيان
بقلم : أسامة بن الحاج محمد وأحمد الزواغي
في إطار الدورة الثانية من مهرجان "مسارح العالم" الذي تنظّمه مؤسّسة المسرح الوطني التونسي احتضنت قاعة الفن الرابع بالعاصمة العرض المسرحي "صمت" في أول مصافحة له مع قاعات المسرح في بلادنا بعد تحصّله على التانيت الذهبي في المسابقة الرّسمية لأيام قرطاج المسرحية سنة 2023.
باعتباره مؤسسة سياسية منذ تمظهراته الأولى بكلّ أشكاله، لم ينحاز المسرح عن هدفه الأساسي مع تطور المجتمعات وتقدّم الفكر البشري في سيرورة متواصلة تبحث عن التجديد والبناء على شاكلة هرم متراتب غير مقلوب، إذ أن هدفه تجاوز الموجود والبحث في الوجود، هذا الذي يكون الإنسان فيه فاعلًا ومتفاعلًا في صور ظاهرها انعكاس لباطنها. كيف لا ويقول فيكتور إيغو Victor Hugo: "وهكذا الإنسان جحود، لايعترف بفضل، ويظهر القوي، ويعضد ذا البؤس، ويتنكر لمن جاهد في سبيل البشرية وضحّى من أجلها". فكيف يكون الإنسان هنا؟
صورة البارحة من عرض صمت بقاعة الفن الرابع
إنّ الإجابة عن هذا السؤال تكمن في انفجار هو جزء من إحدى لحظات الانفجار العظيم Big bang الذي بعث نَفَسَ الكون بكلّ مكوّناته. وأحد هذه المكوّنات هو"نيترات"مرفأ بيروت هذا المكوّن الطّبيعي الذي استغلّه الإنسان ومزجه بنظيره من المكوّنات الأخرى ليصبح خطرا وقنبلة "إسطيطبيعية" تدمّر المدينة وتهلك أهلها، حيث يمكن أن نعتبره جزءًا من إحدى لحظات الانفجار العظيم. إذ عده الخبراء أكبر انفجار غير نووي في العالم.
هذه الصدمة في مسرحية "صمت" التي تتجاوز ما دأب عليه "أرطو" Antonin Artaud في مسرحه لتكون أكثر واقعية مع طرح جديد نسجه "سليمان البسام" وكتبته ركحيّا "حلا عمران" في شاعريّة تجمع صوتها بأصوات الآلات التي اتخذت قوة وهجانة تذكّرنا بالقيامة كما تذكر الميثيولوجيا الدينية "يوم ينفخ في الصّور". بيد أنّ هذه الألحان لم تواصل مع هذا النسق في تعمّد واضح لنقل ماقبل الحادثة وحكايا ضحاياها كما نحتها كلّ من "علي حوت" و"عبيد قبيسي".
نص يخاطب كنه الإنسان
اعتمد نص العمل على الجمع بين العربية والعامية والإنڨليزية ليتّخذ منحى أوسع في التعبير والتبليغ مع لغة بسيطة وسلسة تكلّمت بها "حلا" كثيرًا وغنّتها متّخذة من السّجع والطّباق لحنا ومن الصمت صمتا ليكون المستهدف هنا هيّ اللغة التي بدت مفكّكة متنافرة، تأخذ من كلّ موضوع عقدته وتغوص في قضايا أخرى على غرار الأهمّ. خطاب مباشر موجّه إلى المتسبّبين في انفجار مرفأ بيروت بسبب الإهمال ونقل لشهادات حيّة عبر الشّاشة الخلفية تتّخذ أثناءها الممثّلة موضع الوقوف على الشرفة والتزام السمع والصمت قبل أن تعود إلى نفسها متّخذة إحدى أشكال التعبير الذي كان أغلبه حاضر في شكل غنائيات تعزف من خلالها على أوتار ذاكرة النسيان البشري.
ضوء يتفاعل مع هيبة الصمت
على إيقاع الإضاءة المرتكزة على لون واحد بتدرّجاته طيلة العرض والتي انطلقت من هيكل الساعة المعلّقة، يعود الصمت مهيمنًا على المشهد في تشكّلات ضوئية تنبئ بانفجار جديد حقيقي تسيطر فيه الضبابية على الصورة مسبوق بآخر أغنيات العرض، قبل توقف عقارب الساعة و الانقطاع المفاجئ بين كلّ مكوّنات العرض. ما قدّم إذن على خشبة مسرح الفن الرابع مع عرض عنوانه "صمت"جاء الصمت صريحًا، مع سيل من المفردات وبينها، وأخرى إلى جانبها.
درمتورجيا الصمت هي هُوِيَّة المسرحية
صاغ سليمان البسام نصه معتمدًا على دراماتورجيا الصمت، حيث عمد إلى مراوغة معنى الصمت باعتباره انعدام الكلام إلى تكثيف النصوص السردية والمقاطع الغنائية. فأبرز لنا الصمت بواسطة نقيضه مع المحافظة على وظيفته في دفع متزايد للتفكير. كثف المخرج المنطوق بطريقة منهجية فتجلى كالهذيان. هذا التداعي للكلمات حمل في طياته تساؤلات حول نجاعة اللغة كوسيلة تعبير عن الواقع المعيش. إذا تمعنا بعمق، هو في الحقيقة هجوم واعي جعل من بنية النص بنية مجزئة. فالحدث الدرامي هو زمن انتظار الانفجار الذي أشار إليه المخرج منذ بداية العرض عن طريق عرض مقطع مسجل لعقيد في الجيش اللبناني.
متلقي اليوم يهرب من الوحدة
إن استعمال الكاتب لدراماتورجيا الصمت عائد إلى طبيعة العصر ومتفرج اليوم الذي أصبح يكره الوحدة والفراغ و إضافة الوقت والبطء ويميل إلى ملئ فترات الصمت عن طريق شحنها بالموسيقى أو الإعلانات أو الثرثرة. فالكلمة فقدت معناها أمام الصورة. ويمكن أن يرتبط هذا الصمت بالموت من جهة سكونه وجموده. وهو إلى ذلك يكتنز عالما آخر ملؤه الحركة والتحوّل، هذه المراوحة التي صاغ ضمنها البسام دراماتورجياته وكأنه يرغب في أن يسمعنا "صوت الكتابة الصامت" على حسب تعبير ماغريت دوراس Marguerite Duras. وهنا نفتح المجال على عالم من الإيقاعات.
راو مغني يقود أحداث المسرحية
شكل الأداء الإيقاعي لعلي حوت وعبد قبيسي نص موازي للنص السردي الغنائي للفنانة حلا عمران، وكأننا أمام راو مغني Récitant حيث لم تكتفي المؤدية بالتعليق الهامشي تجاه الفعل وإنما سردت مقاطع كلامية وأخرى غنائية طيلة زمن العرض. هذه المراوحة تضعنا في صُلْب جمالية الإلقاء المنغم Récitatif فمنذ بداية العرض نسمع المؤدية (تدندن) بعض الكلمات ومع تطور الحدث الدرامي يتكاثف الإلقاء ويبرز أثناء التحولات الإنفعالية والسرد والإيقاعات والنغمات رسمت بها حلا عمران الشخصية الصامتة فهي تمثل على حد تعبير المخرج "استعارة لشخصية المفكر والفنان والإنسان الذي يختار الصمت المطلق كشكل مطلق للتعبير".
متمكنة من أدواتها، لعبت المؤدية حلا عمران أدوارا يصعب تحديد ملامحها. هي حاملة لخطاب لغوي تم انتقاء مفرداته والانتقال بين مستويات خطاب متباينة سعت لمخاطبة الجمهور بمختلف طبقاته الاجتماعية ومستوياته الفكرية بلغة يفهمها. وكما أشار المخرج في كلمته الافتتاحية للعرض أنه يسعى إلى "التكثيف على صعيد اللغة" و يضيف عن العمل أنه "يشكل حلقة جديدة من حلقات البحث عن التوليفات العربية لبناء لغة مسرحية معاصرة متجددة".
إن معالجة سليمان البسام لحداث انفجار مرفأ بيروت هو إعادة تقديم حدث منقضي، فجعله حاضرا لا أمام أعيننا فقط بل حاضرا في آذاننا وذاكرتنا وامتد هذا الحضور لما شهده العالم بعد أحداث الانفجار وإلى يومنا هذا بواسطة الإحالة إلى الأحداث في غزة وغيرها من البلدان. فطيلة ثمانية دقائق وهو الزمن الدرامي وإلى حدود لحظة الانفجار اقتحم البسام الصالة في دعوة صريحة وجهها إلى المتفرجين ليكون الركح مكان للمتفرجين عن طريق إلغاء الهوة بين الركح والصالة معتمدًا "الانصهار وذلك لتشجيع عملية المشاركة" على حد تعبير باتريس بافيس Patrice Pavis. إجمالًا، سعى المخرج إلى الكشف عن آليات التكوين المشهدي الذي مثل بعض المتفرجين جزءًا منه تطبيقًا لمقولة المخرج الألماني برتولد بريشت Bertolt Brecht "إذا كنا نريد أن نصل إلى التمتع بالجمال فلا يكفي مطلقًا أن نسعى إلى استهلاك مريح وقليل من الكلفة الناتج عن عمل فني. فمن الضروري أن نساهم في لُعْبَة الإنتاج نفسها بدرجة كافية وأن نرضى بإعمال الخيال، وأن نضم خبراتنا الخاصة إلى خبرة الفنان أو أن نعارضه". مسرحية صمت سكنت إذن قلب المتفرجين في ختام هذه الأيام الرمضانية وهي لن تخرج منه بصمت وبسهولة.
أسامة بن الحاج محمد وأحمد الزواغي
شكرا على هذا المقال الرائع ليس بغريب على موقع "ثقافة تونس"